في مقابلة قبل أسبوعين من هذا التاريخ، بين المذيع الشهير في محطة «فوكس نيوز»، تاكر كارلسون، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استمرت قرابة ساعتين، استغرق بوتين أكثر من عشرين دقيقة، في استعادة لتاريخ العلاقة بين روسيا وأوكرانيا. وأشار إلى أن روسيا تأسست، عام 862، وقد احتفل الشعب الروسي عام 1862، بمرور ألف عام على تأسيس دولته.
ويميز بوتين، في هذه المقابلة، بين علاقة بلاده بأوكرانيا، وعلاقتها ببولندا. فالأولى، ومن خلال القراءة التاريخية التي قدمها كانت دائماً جزءاً من روسيا، أما بولندا، فإنها لم تكن كذلك، رغم أن ستالين ضمها بعد الحرب العالمية الثانية، لحلف وارسو. إنها أمة مختلفة لها لغتها وثقافتها ومعتقداتها الخاصة، التي لا تمت بصلة لروسيا. وعلاقتها بالاتحاد الروسي، كانت في الغالب، علاقة خصومة.
لا يرى بوتين، أي مبرر لروسيا، للدخول في مواجهة عسكرية مع بولندا، إلا إذا اختارت الأخيرة، أن تدخل في صراع عسكري مع بلاده، عند ذلك سيكون مضطراً لمواجهتها. كما أنه لا يجد بلاده معنية بانضمام بولندا لحلف الناتو، إذا لم يكن ذلك يشكل خطراً مباشراً، على الأمن القومي الروسي. فهي في المحصلة دولة مستقلة، ولها خياراتها السياسية وتحالفاتها العسكرية، التي تخدم مصالحها.
خلال فترة طويلة، بقيت كييف، وبقية الأراضي الأوكرانية، جزءاً من روسيا، تتحدث لغتها، ديانتها المسيحية، والمذهب الأرثوذكسي، تماماً كروسيا. وللتدليل على صحة كلامه، قدم وثائق صادرة عن حاكم أوكرانيا، حين كانت جزءاً من الأراضي الروسية. ويخلص بوتين من قراءته المكثفة لصلة روسيا القومية والدينية بأوكرانيا، إلى أنها كانت دائماً، ولأكثر من ألف عام جزءاً من الأراضي الروسية.
يصرّ بوتين، على عدم وجود لغة أوكرانية خاصة، وأن لها لهجتها الخاصة بلغة روسية، تعمل على تحويلها إلى لغة بديلة عن الروسية. لكن الواقع التاريخي لا يسند ذلك. إضافة إلى أن الجزء الشرقي من أوكرانيا، يضم في غالبيته مواطنين من الناطقين باللغة الروسية. وقد تعرضوا في السنوات الأخيرة، لاضطهاد قومي وعنصري، ما دفعهم للمطالبة بحقوقهم الثقافية، وقيام إدارة ذاتية في مناطقهم، تعكس تطلعاتهم الثقافية والقومية. وكان من نتائج الدعم الروسي لتلك المطالب، قيام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، الواقعتين في حوض دونباس الصناعي.
ما جاء في مقابلة كارلسون مع الرئيس بوتين، يفسر، إلى حد كبير، الأسباب التي دفعت بالرئيس الروسي، للقيام بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، منذ 24 فبراير/ شباط عام 2022. فالواضح أن بوتين ظل مسكوناً لزمن طويل، بقناعة تبعية أوكرانيا للأراضي الروسية. ولم يكن ضم لوغانسك ودونيتسك سوى الخطوة الأولى على طريق ضم بقية الأراضي الأوكرانية، وكان آخرها، السيطرة على أجزاء من مدينة باخموت الاستراتيجية، التي تقع في القلب من حوض الدونباس.
صحيح أن أوكرانيا، ظلت بلداً مستقلاً، وغير تابع للاتحاد الروسي، منذ السقوط الدرامي المدوي للاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، لكن تبنيها سياسات مختلفة، تقترب أكثر فأكثر، من التحالف مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دفع بروسيا إلى تغيير سياساته بشكل حاد نحوها.
لقد باتت أوكرانيا، موضع اهتمام من قبل إدارة الرئيس بوتين، خاصة بعد تمدد حلف الناتو، لشرق أوروبا، خلافاً للتعهد الأمريكي، بأن لا يتوسع الحلف، إلى دول أوروبا الشرقية، التي كانت حتى وقت قريب جزءاً من حلف وارسو. لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لم تحافظ على ذلك الوعد، وواصلت ضم تلك الدول الواحدة تلو الأخرى، إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
لم يكن الاتحاد الروسي، آنذاك، في وضع سياسي واقتصادي يسمح له بمواجهة السياسة الأمريكية. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفصال مجموعة من الجمهوريات التابعة له عن روسيا، عانت البلاد فوضى كبيرة، أدت إلى حدوث انهيارات اجتماعية واقتصادية، وتراجع للفعل السياسي الروسي. وقد استغلت أمريكا هذا الوضع، وعملت على ملء الفراغ، في أوروبا الشرقية، وأيضاً بالجمهوريات السوفييتية السابقة، بما يخدم أهدافها، ومصالحها. وقد تم ذلك على حساب الأمن القومي الروسي. لكن عودة روسيا بقوة، إلى المسرح الدولي، بقيادة قيصرها الجديد، أعاد ترتيب أوضاع روسيا مجدداً، وساعده في ذلك كاريزما خاصة، وطموح على إعادة أمجاد بلاده، وكسب احترام دول العالم لها.
ومن المنطقي أن لا تقبل قيادة طموحة، بأن يكون السيف مسلطاً على رقبتها. لقد غضت روسيا نظرها، عن انضمام دول أوروبا الشرقية للناتو بسبب ضعف قدراتها على مواجهة السياسة الأمريكية، أما وقد استعادت قوتها، وبات العالم كله يضع مواقفها واستراتيجياتها في الحسبان، فقد باتت حريصة على مصالحها الحيوية وأمنها القومي. ولذلك عملت كل ما من شأنه للحيلولة دون انضمام أوكرانيا، إلى المؤسسات الغربية، بما فيها الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. والتلويح بالمواجهة العسكرية للغرب، في حال تدخله العسكري المباشر، في الشؤون الأوكرانية.
ما طرحه الرئيس بوتين، مع المذيع كارلسون، هو في جانب كبير منه، قراءة معمقة للسياسة الروسية الراهنة، ومن جهة أخرى، هو جرس إنذار، لكل من تسوّل له نفسه، العبث بأمن بلاده ومصالحها واستقرارها. وهي مزاوجة جلية بين التاريخ والسياسة.