: آخر تحديث

دستور الكويت.. بين التلاقي والتباعد

36
20
26
مواضيع ذات صلة

نبعت فكرة الدستور من رؤية الشيخ عبدالله السالم بتبنّي آلية تجمع الكويتيين للتضامن الدائم صوناً لاستقلال بلدهم، وهي آلية من وحي واقع الكويت، تجنيداً لكل الطاقات، وتأميناً لتواجدها، فلا تتحمّل في فضائها معارضة أو مناكفة، فخياراتها الدستورية التلاقي أو التباعد، الخيار واحد من اثنين، الحكومة والبرلمان، فإذا لم يتوافر الإجماع أو الحصول على الأغلبية، فلا مكان لأنصاف الحلول، فلا بد من غياب واحد من العمودين، اللذين تعتمد عليهما الكويت في حياتها، فإذا لم يتحقق التوافق تتكاثر الأزمات، فلا تتواجد أحزاب تتسابق إلى الفوز في الانتخابات وتشكيل قيادة بواقع الأغلبية، فحقائق الدستور تفرض التعاون أو الاستغناء عن البرلمان، إما تفاهماً أو تخاصماً.

وفي برلمان 2022 تواجد عدد من النواب لم يستوعبوا هذه الحقيقة، وقبل ذلك جاءت برلمانات لم تهضم أو تتفهم هذا الوضع، فجاءت الصدمات التي أفرزت تلاحق حل البرلمان والتفكير في صيغ بديلة، هذه الحقيقة تسيطر على الكويت اليوم، فلم يسجل تاريخ الكويت السياسي ما يشبه حالة اليوم، حيث يتسع الفراغ، ويتعاظم السكوت، ويزيد القلق، ويجعل المواطنين يمشون على أطراف الأصابع في غياب المؤشرات التي تنهي حالة الاضطراب، والبحث عن صوت حكومي مسؤول يخفّف من حالة اليوم، مع تساؤلات عما يقوم به سمو رئيس الوزراء المكلف تشكيل وزارة جديدة، فالوضع الحالي يستدعي صوتاً يخترق هذا الجدار الصامت، يحمل شيئاً عن آفاق المستقبل، بدلاً من ترك الوضع لكي تملأه تصريحات من النواب وغيرهم، أزعجهم حل المجلس الأخير وعودة المجلس القديم، فتسابقوا في تجمعات تفرز مواقف عدة حول مدى منطقية قرار المحكمة واحتمالات تجاوزها لصلاحياتها، ترافقها كثير من مفردات الغضب وخيبات الأمل.

وإنصافاً للغاضبين والمتبرمين، فإن الأجواء الحاضرة أوصلت الفراغ إلى حدود الفزع، فلا تبعث على الارتياح، وتثير تساؤلات عن بطء الخطوات، وعن مخاوف قد تطفو تتناول جدارة المرشحين القادمين، وقابليتهم للتعامل مع واقع الدولة الحالي، يرافقها تشكيك باحتمالات وصول فريق لا يملك الهمة والعزم على مجابهة التحديات.

وأود التذكير بأن السياسة لا ترتاح للسكوت المستمر، وإنما تستلزم الحديث من المسؤول الأول المكلف بالتشكيل ليعطي جرعات من الاطمئنان، فالسكوت ليس دائماً من شروط الحكمة، وإنما يخلق الشكوك والتساؤلات.

ومن المهم أن تراعي كل من السلطة التنفيذية والنواب السابقين حساسية الرأي العام المعبّرة عن مواقف الشعب الكويتي الغيور على وطنه، والمتعطش لأخبار تهدّئ من قلقه، فأهم حصن في سلامة الكويت هو الوحدة الوطنية الصلبة التي أعيت مجموعة صدام حسين الإجرامية، التي لم تفهم التصاق المواطن الكويتي بأرضه ووطنه في بحثها عن مشاركين في جريمة الاحتلال.

ولا ننس أن التواصل التاريخي بين الشعب وقيادته طوال هذه القرون، والتداخل بينهما، يظلان الحصانة الصلبة للوحدة الوطنية، وسجل تاريخ الكويت أن جميع حكام الكويت عملوا بإخلاص على تعميق قواعد الترابط، وبفضل ذلك تحولت الكويت إلى شبكة متداخلة تضم الجميع، بلا تمييز، وجعلتهم جميعاً يؤمنون بأن الوطن ملك الجميع بلا امتيازات.

وأود التذكير بأن الكويت ستبقى هدفاً للشهية الإقليمية، فكل ما لديها يغري، موقعاً وثروة، وثقافة مسالمة يزينها طيب النوايا، وأهم سلاح في ترسانتها هو تماسك شعبها في وحدة وطنية جماعية مؤثرة، وتبقى الكويت في صحة وهناء بهذا الإجماع الموالي للتربة، والمنسجم مع قيادته التاريخية في تأمين الاستقلال والسيادة والتفاهم حول الترابط الإستراتيجي مع الحلفاء.

هناك برلمان خرج من دستور اختاره الحاكم الشيخ عبدالله السالم، لكي تنطلق الكويت في حياتها مع الاستقلال على ضوابط دستورية جاءت في شكل مبادئ أجملها سيادة القانون، فلا أحد يتعالى، والكل متساوون بلا استثناءات، وخرج الدستور من وعي بأن الكويت بحاجة إلى رفقة تاريخية دائمة بين الشعب والشرعية التاريخية لتأمين مسيرة المستقبل عبر التعاضد والمشاركة في قرارات التطوير، وفي كل ميادين الحياة.

وفي هذا المجال لم تسجل الكويت تقدماً تنموياً ملموساً ولا انسجاماً سياسياً بين السلطة التنفيذية والبرلمان، سواء في برلمان 2020، أو برلمان 2022، فضاع الوقت في مجابهات فيها خروج على روح الدستور وعلى التعاون ومفهوم الشراكة، وتعرضت الكويت لإخفاقات أصابت مفاهيم التعاون والتلاقي الودي، وتزايدت فيها المساءلات بلا مبررات، رافقتها دائماً تصريحات ساخنة فيها مفردات مثيرة خارج المعتاد، إضافة إلى طرح أفكار ومقترحات مكلفة سياسياً ومالياً بعيدة عن قناعات الشعب، كما برزت تراشقات بمفردات غير معتادة تجاوزت الضوابط ولوائح المجلس، وبمفردات غريبة على طبيعة الكويت، وصلت إلى حد القيام بتصرفات استفزازية لم تعرفها قواعد السلوك البرلماني.

ومن المناسب أن أشير إلى أن السلطة التنفيذية تساهلت كثيراً في عدم اعتراضها على تدخلات ومواقف تتعارض مع الدستور، ومن هذا التساهل تراكمت المخالفات إلى مستوى لم تعد فيه احتمالات التعاون ممكنة.

وفي هذا المجال أود أن أشير إلى أن نزعة الاعتدال في السلوك وفي الكلمات وفي المواقف، ومنها برزت ما نسميها الاستثنائية الكويتية البرلمانية، فإذا خرجت الأجواء عن الاعتدال، وعن صحبة التعاون، مع تصاعد التوتر وانحدار مستوى الحوار، يتوقف العمل، وهذا ما وقعت فيه الكويت خلال السنوات الماضية.

في البرلمانات الكويتية السابقة كان البرلمان، في أغلب الأحيان، لصيقاً لمواقف الحكومة في مسارات السياسة والتنمية، وكان البرلمان شريكاً للحكومة في الدفاع عن القرارات التي تم اتخاذها بالتوافق بين الطرفين، وكان دائماً مساعداً لدور الحكومة في شرحها للرأي العام، ويعزّز دورها سياسياً وإعلامياً، ويقدّم تطمينات لأبناء الشعب بأن القرارات تصب في مصلحة أبناء الوطن، وأنها وليدة التعاون والوئام بين الحكومة والمجلس.

لم يكن هذا المناخ متواجداً في برلمان 2020 وبرلمان 2022، وهنا تبرز الحقيقة الثابتة، التي يفرضها الدستور، بأن نجاح البرلمان يأتي من التعاون مع الحكومة، وهذه الحقيقة تفهمها الحكومة أيضاً، فلا نجاح للحكومة من دون دعم من البرلمان، فلا توجد معارضة في برلمان الكويت، لأنه برلمان شراكة، لا يسمح للسباق بتعددية حزبية، فالكويت حزب واحد والبرلمان متعدد الاجتهادات، لكنه مع الحكومة يشكل الثنائية التي تعطي الحياة للكويت ولدستورها.

وهنا يأتي دور الحكومة بالإصرار على مبدأ التشاركية، الذي أراده أبو الدستور الشيخ عبدالله السالم، ولا جدال بأن فشل الحكومة في علاقاتها مع البرلمانيين خرج من تجاهل البرلمان لهذه الشراكة الفريدة التي هي جوهر الدستور.

مستقبل الكويت يأتي من هذا التعاون، وتوقفت الكويت منذ أكثر من سنتين، لأن الجمود طغى على العلاقة بين البرلمان والحكومة. وإذا استمر، فلا مفر من اللجوء إلى الحل، وهنا نأمل في أن يصر رئيس الوزراء على مشاركة البرلمان، فالشعب الكويتي لن يسامح أي طرف يتردد في تحقيق الثنائية المتعاونة، وسيتعاظم الانزعاج الشعبي على حساب الدستور ويخسر الجميع، البرلمان والحكومة وأبناء الشعب عند تلاشي روح التعاون، التي ستضرب بكل ما حققه الدستور.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد