: آخر تحديث

شعرة العجين وشعرة معاوية

10
14
17
مواضيع ذات صلة

للكثير منّا شغف ثقافي بالدرجة الأولى في تأمّل ما يمكن أن يُسَمّى «الكنايات الشعبية»، والمقصود بها الأمثال والحكم التي تجري على ألسنة الناس البسطاء العاديين، وهم في العادة لم يحظوا بالقراءة والكتابة، وإنما جاءت بلاغاتهم عفو الخاطر كما يقولون.

وفيها من الحكمة والفصاحة، أحياناً، أكثر ممّا في البلاغة «الرسمية» الفصحى والتي تعود أحياناً إلى فلاسفة ومفكرين متعلّمين شبعوا من الكتب.
من بين «الكنايات الشعبية» مقولة «..خرج منها مثل الشعرة من العجين..»، وتعود كلمة «منها» إلى كارثة أو حماقة أو حتى جريمة ارتكبها المعني بهذه الكناية اللغوية الرائعة، فخروج الشعرة من العجين خروج ناعم سلس «لا من شاف، ولا من درى، ولا من سمع». إنها مثل خروج اللص تحت جنح الظلام بكل أمان، مع أن يديه وضميره ملطخة بالشر والكذب.


في الثقافة العربية لم يدرس أحد في حدود معرفتي بهذه الكنايات أو قراءتها، أو سماعها من آبائنا ومن أجدادنا القدامى، وعلى أي حال، فإن الشعرة والعجين هي كناية عن نجاة المجرم من الواقعة التي ارتكبها، وهي كناية مختلفة تماماً عن كناية معاوية بن أبي سفيان في مقولته البلاغية الشهيرة «..لو أن شعرة بيني وبين الناس لما انقطعت..» فهو يرخي إذا شدّوا، ويشدّ إذا أرخوا، والمعنى العام سياسي وليس ثقافياً، وهو المعنى الذي يصدر عادة عن عقل داهية وفكر أكثر دهاء، وكان معاوية واحداً من دهاة العرب.

شعرة معاوية هي الأخرى ناعمة سلسة مثل شعرة العجين تلك، ولكن المعنى مختلف في الدلالة وفي التأويل إذا أردنا أن نستخدم المصطلحات «المخيفة» لبعض المثقفين.

تداعياً على شعرة العجين وشعرة معاوية، فإن هناك الكثير من الشَّعر (بتشديد وفتح الشين)، وهناك الكثير من الدهاء في الحياة.. بل في الحَيَوات:.. الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والصحفية، والأسرية، والفكرية،.. وإلى آخره من حَيَوات البشر، وهي معاً تشكل مجموعة من الأقنعة..

صاحب الشعرة والعجين كان يرتدي قناعاً، ومعاوية أيضاً كان يرتدي قناعاً، فما من داهية عند العرب وغير العرب إلاّ وله أكثر من قناع، لكي لا تنقطع الشعرة..

..وبعد..

أليس هذا حقلاً ثقافياً، دلالياً، تأويلياً، بالكامل نقطة ارتكازه «الكناية..»؟؟

إن هذه الكناية فن حقيقي بالفعل، وإن عصب فنّيتها إنما يعود إلى كونها صادرة عن ناس شعبيين، بسطاء، صادقين، والجوهر البشري والإنساني فيهم إنهم صادقون، لا يعرفون الكذب ويعرفون فقط إن العجين هو لفقراء الله، ولخبز البشر، وليس للكناية والدّهاء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد