مع أننا نعتقد أن كل حضارة أو ثقافة تأخذ من الحضارة أو الثقافة الأخرى وفي طور تكون الآخذة معطية إلا أن الحضارة المعاصرة اليوم فرضت نفسها -بالكشوفات والتكنولوجيا- كحضارة للعصر الحاضر كله، وهو شيء جديد فاجأ الثقافة العربية كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري معتبراً أن التجربة التاريخية للثقافة العربية في هذا العصر لا تكفي لوحدها فقد كان نموذج الثقافة العربية كافيًا لنا يوم كان التاريخ تاريخنا.
أما اليوم فإننا لم نعد وحدنا في هذا العالم ولن نكون وحدنا في المستقبل على الأقل في المنظور القريب.
ولذلك فإن النموذج الذي يمكن استلهامه من أجل إعادة بناء الذات هو نموذج تجربتنا العربية، مع الاستفادة من التجربة التاريخية للحضارات التي سبقتنا، والحضارة التي فرضت نفسها اليوم كحضارة للعالم.
وفي هذه الحالة لابد من انفتاح جديد للعقل العربي على العالم الحديث.
وكما يقول اللورد شيستر فيلد: معرفة العالم لا يمكن الحصول عليها إلا بالانغماس في العالم.
لقد ركزنا اهتمامنا كعرب على الخصوصية الثقافية وسكتنا أو وتجاهلنا عما يربطنا بثقافة الآخر فالتحرر من ثقافة الآخر لا يعني الانغلاق دونها وإنما الدخول في الثقافة والتعامل معها نقدياً وذلك بقراءتها واستيعاب مفاهيمها والتعرف على أسس تقدمها واستنباتها في بيئاتنا.
فالتعامل النقدي العقلاني مع أي ثقافة أو تراث يتوقف على مدى قدرتنا على استيعاب الجديد فيه وإدخاله في نسقنا الثقافي وتوظيفه.
يقول الدكتور هنري كيسنجر في كتابه سنوات التجديد: الدرس الحاسم الذي تعلمته في حياتي أن التغيير والتجديد هما قانون الحياة وهذا مايعرفه أي طالب يدرس التاريخ.
فأبرز سمات هذا العصر التغيير والتجديد وسواء نظرنا إليهما من زاوية إيجابية أو من إطار سلبي الا أن الواقع الذي لابد من الاعتراف به هو أننا نعيش في عالم متغير ولا بد أن تختلف وسائلنا لمواجهة هذا التحدي الكبير الذي يفرضه علينا هذا العالم المتغير وهذا يضعنا في تساؤل.
ماذا يجب أن نأخذ من تراثنا؟ وماذا يجب أن نأخذ من العصر؟.
وما هو المنهج الصحيح والمعايير والمقاييس التي تمكننا من الوصول للحقيقة ومن هنا يبدو لنا الموقف النظري الصحيح التطبيقي النموذجي للوسطية وانفتاح العقل على المعطيات الجديدة.
فالتغيير الهائل الذي حصل مع الحضارة الصناعية والذي يحصل اليوم مع عصر [الثورة العلمية] في علوم الفضاء والذرة والبيولوجيا، كما في علوم الاقتصاد والاجتماع.. يجعل الانفتاح على هذه العلوم، وبكيفية خاصة على أسسها المعرفية ونتائجها على المستوى الانساني ضرورة لا تقل عن الحاجة إلى علوم اللغة والعلوم الإنسانية، والانفتاح على فكر العصر، لمواكبة الحياة المعاصرة، والتي هي أولا وقبل كل شيء مسألة منهج.. وسلوك عقلي.
فالفكر المنفتح على العصر بمنهج عقلاني وموضوعي يدل دلالة واضحة على أن التسامح مفهوم مركزي في ثقافتنا، وهذا يعني [أن تكون للإنسان الحرية في الالتزام بما يعتقده وقبول حرية الآخرين في الالتزام بما يعتقدونه].
هذا الربط المنهجي ما بين التسامح والفكر العربي الإسلامي يفضي إلى التكامل التسامحي مع المجتمعات الإنسانية فالعلاقة مع الحضارات علاقة تنوع وتكامل وليست علاقة تضاد [فالأساس في الكون التكامل وليس الصراع].
ولهذا يأتي التكيف الواعي مع المستجدات، والتكيف يعني ملاءمة الذات مع الواقع الجديد، وتحقيق نوع من التوافق والتكامل بين ما يفرضه العصر من تجديد وما عندنا من تشريعات وقيم.
فالعوائق التي تصدنا عن الدخول في العالم، هو انغلاق بعضنا أو كلنا داخل مرجعيته الخاصة مهما كانت هذه المرجعية ونفي كل ما عداها، إما بجهل أو تجاهل أو بالتصنيف الأيدلوجي أو غيره وهذا يتنافى مع إنسانية وعالمية الإسلام التي تدعو الى التصالح مع الذات والطبيعة والبشر.

