عبد المنعم سعيد
في هذه الصحيفة الغراء نشرت يوم الأربعاء 21 يونيو (حزيران) 2017 مقالاً بعنوان «منطقة للأمن والرخاء المشترك»، وكان قوامه أن الاتفاقية البحرية المصرية ـ السعودية فتحت الأبواب لمستقبل واعد يقيم منطقة للرخاء المشترك في البحر الأحمر بين مصر والمملكة. ويسير البلدان في خطط تنمية طموحة وفق «رؤية 2030» وما انبثق عنها من مشروعات تنموية شجاعة.
ودون الدخول في تفاصيل تعيد ما سبق ذكره، فإن ما جرى في البحر الأحمر يتكرر الآن في منطقة جديدة لا تقل اتساعاً عن البحر الأحمر، وهي منطقة شرق البحر المتوسط. ومرة أخرى، فإن مفتاح الأمر كان تخطيط الحدود البحرية المصرية ـ القبرصية، التي نجم عنها أولاً اكتشافات كبيرة للغاز في المياه الاقتصادية المصرية والقبرصية. وثانياً اتفاقاً مصرياً قبرصياً مبدئياً لأن تقوم قبرص بإرسال غازها إلى مصر من أجل تصنيعه وتسييله وتصديره. وقبل توقيع الاتفاق النهائي في هذا الشأن وقّعت شركة «دولفينوس» المصرية اتفاقاً مع شركة «نوبل» الأميركية، وشركائها الإسرائيليين صفقة قدرها 15 مليار دولار للاستقبال الأولي للغاز المتولد عن حقل تامارا الإسرائيلي عبر شبكة أنابيب الغاز المصرية البحرية الموجودة بالفعل من فترة سابقة من أجل تصنيعه وإسالته وتصديره.
أصل الحكاية كلها بدأت منذ ملايين السنوات عندما تدفقت مياه النيل حاملة معها «الغرين» أو الطمي والأشجار والأحجار والطين والمخلفات عبر طريقها الطويل من المنابع في إثيوبيا والسودان إلى المصب في البحر الأبيض المتوسط. وكما حدث في خليج المكسيك بالولايات المتحدة عندما حدث أمر مشابه في خليج المكسيك من قبل نهر المسيسبي، فإن الحرارة والضغط والزمن جعلت المكونات العضوية التي حملتها الأنهار العذبة تتحول إلى غاز ونفط في المياه المالحة. ومع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فإن اكتشافات الغاز تحولت إلى حقول بات معروف منها حقل «إفروديت» في قبرص، و«تامارا» و«ليفاثيان» في إسرائيل، و«ظهر» ـ وهو أكبر الحقول ـ في مصر. وهناك على السواحل الفلسطينية في قطاع غزة، وتلك اللبنانية ما يبشر بوجود حقول مماثلة. ودون الدخول في كثير من التفاصيل الخاصة بالشركات والممتلكات وأمور اقتصادية ومالية أخرى، فإن الحقيقة الماثلة هي أن النفط والغاز يشكلان الآن واقعاً للتعاون والفوائد المشتركة بين دول شرق البحر المتوسط. والحقيقة الأخرى، كما كان فيما يخص البحر الأحمر، هي أن اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية وفقاً لقانون البحار قد خلقت واقعاً قانونياً يحوّل الغاز والنفط من سبب للصراع إلى وسيلة للتعاون والمشاركة في الرخاء.
ولحسن الحظ، أن مصر كانت مستعدة للعب دور محوري في هذا النوع من التفاعلات؛ نظراً لتاريخها السابق في نقل النفط عبر قناة السويس وخط «السوميد» من الدول العربية المنتجة للنفط، وبخاصة المملكة العربية السعودية إلى مناطق الاستهلاك في أوروبا؛ ونظراً لأنها حالياً تمتلك منصتين لتسييل الغاز، أولاهما الشركة المصرية الإسبانية للغاز بدمياط، والأخرى الشركة المصرية لإسالة وتصدير الغاز بمدينة إدكو؛ ونظراً لامتلاك مصر أكبر شبكة أنابيب لنقل الغاز ممتدة حتى الحدود مع إسرائيل والأردن عبر خليج العقبة. وغني عن الذكر أن مصر تشكل أكبر أسواق المنطقة استهلاكاً للغاز، سواء كان ذلك من أجل الصناعة، حيث إن معظم الصناعات المصرية كثيفة الاستخدام للطاقة (حديد وصلب وإسمنت ومواد بناء وألمونيوم وبتروكيماويات)، بالإضافة إلى احتياجات سكانها من الطاقة الكهربائية وعددهم يتجاوز الآن 100 مليون نسمة. هذه الخصائص جعل مصر مهيأة لكي تكون الرابط بين منطقة البحر الأحمر وتلك التي تتشكل في شرق البحر الأبيض المتوسط. ولعل الحملة العسكرية التي شنتها القوات المسلحة المصرية في العملية «سيناء 2018» لكسر العمود الفقري للإرهاب في سيناء، والتي لا تزال مستمرة حتى وقت كتابة هذا المقال، هي المكون الاستراتيجي لجعل سيناء رابطاً أساسياً في هذه العلاقة بين البحرين.
وكما هو الحال دائماً في العلاقات الدولية والإقليمية، فإن المتغيرات عادة ما تولد رابحين وخاسرين، ومعها تحركات مضادة. وفي حالتنا هذه، فإن تركيا طرحت نفسها فوراً من خلال وجودها في قبرص التركية بعدم الاعتراف بالاتفاقية المصرية القبرصية؛ كما أن جماعات في مصر والعالم العربي بدأت في طرح تأثير هذه المتغيرات على القضية الفلسطينية. الموقف التركي يمكن فهمه من خلال الجغرافيا السياسية باعتبارها دولة مطلة على شرق البحر المتوسط، واقتصادياً على أن الغاز المتولد في المنطقة سوف يكون منافساً للغاز الروسي الذي يمر إلى أوروبا من خلال الأراضي التركية. لكن فهم الدور التركي لا يعني القبول به، فلا قبرص التركية حقيقة دولية ما دام لا يعترف بها أحد سوى تركيا ذاتها، كما أن المنافسة واردة دائماً في كل السلع العابرة للحدود والقارات أيضاً. بالنسبة للقضية الفلسطينية، فإنه لا يوجد ما يشير إلى أن المتغيرات الجديدة سوف تضر بالضرورة بالقضية. وعلى العكس، فإنها يمكن أن تفيدها ليس فقط لأن الساحل الفلسطيني يحتوي أيضاً على الغاز، وأنه يمكن ترسيم الحدود المصرية الفلسطينية، وتلك الفلسطينية الإسرائيلية في البحر بطريقة أكثر سهولة من ترسيمها في البر. باختصار، فإن إسرائيل المستوعبة في منطقة للرخاء المشترك ربما تكون أكثر مرونة وأقل تعنتاً من وجودها في منطقة للصراع الدائم، وبخاصة إذا ما كان الأمر سوف يشمل ليس فقط الفلسطينيين، وإنما أيضاً لبنان وربما سوريا في المستقبل.
الملاحظ هنا، أن هذه المتغيرات لا تشمل فقط دولاً لها حدود اقتصادية بحرية، وحقولاً عابرة لهذه الحدود، وسلعة متعددة الأغراض، فضلاً عن كونها أكثر صداقة للبيئة، وإنما تشمل دولاً كثيرة؛ فإسبانيا شريك أساسي في محطة مصرية للإسالة، وكذلك إيطاليا التي اكتشفت وطورت حقل «ظهر»، فضلاً عن مشاركتها في محطة إسالة، وأيضاً الولايات المتحدة الأميركية ذات النصيب الأكبر في الحقول الإسرائيلية، أما روسيا فقد اشترت بالفعل نصيباً مرموقاً من حقل «ظهر». المسألة هكذا أصبحت ذات طبيعة دولية فضلاً عن إقليميتها، ورغم أن مكوناتها حتى الآن ذات طبيعة «جيوـ اقتصادية»، فإن الأمر على الأرجح سوف يولد نتائج جيوـ سياسية أيضاً. وفي مقال الأسبوع الماضي أشرنا إلى «عودة الجغرافيا السياسية»، ولعل ما يجري الآن، وسوف يجري في المستقبل القريب، سوف يتعلق بهذه العودة؛ وهو ما يتطلب نوعيات جديدة من التفكير المتعلق بالأمن الإقليمي، وتسوية آثار ما نجم عن الربيع العربي المزعوم من عنف وإرهاب وضرب الاستقرار داخل وخارج دول المنطقة. وكما يقال دائماً في مثل هذا المقام، فإن في الأمر دائماً مخاطر وفرصاً، وفي الظن هنا أن الفرص أكبر، وكل ما نحتاج إليه هو التعلم من سابق ضياع الفرص، فربما ننجح هذه المرة!