عبدالحق عزوزي
كثيراً ما يسألنا الغربيون عن سماحة بعض الشعوب العربية في علاقاتها المجتمعية وعلاقاتها بالآخر أياً كان، ولئن تعددت الأسباب والمسببات، فالجواب يكمن أولاً في عبقرية قادة استثمروا بذكاء في الإنسان منذ الوهلة الأولى، أي منذ نشأة الدولة الحديثة، ثم، ثانياً، يكمن في المرجعيات والقواسم التي توحد ولا تفرق، تجمع ولا تشتت، تشجع استعمال الفكر والعقل وتنبذ العصبية والتحجُّر.. ولعل أفضل ما أسوقه دائماً في أمثلتي هو تجربتا دولتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية، وهما بلدان يطبقان المذهب المالكي الوسطي المعتدل. وها هو مالك، رضي الله عنه، كان يوصي طلابه وأتباعه بأن ينظروا في كلامه، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله أخذوا به وإلا ردوه، كما كان يقول «ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وقال سعد بن حنبل لرجل «لا تقلدني ولا تقلدنّ مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا».
وهذه قمة في التسامح وقمة في الاعتراف بالنقص وقمة في الأخذ بكلام الآخر إذا كانت حجته أقوى... ومن الحقائق الثابتة في تاريخ الأمة الإسلامية وتاريخ البشرية، أن الناس مختلفون في تفكيرهم، فالإنسان كما يقول الإمام محمد أبوزهرة من وقت نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون، فلا بد أن نقول إن الصور والأسئلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في الناس باختلاف ما تقع عليه أنظارهم وما يثير إعجابهم. ولقد قال أفلاطون: «إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطاؤه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهة، ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل منهم جارحة منه فجسها بيده، ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مسّ الرِّجل أن خلقة الفيل طويلة مستديرة شبيهة بأصل الشجرة. وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته تشبه الهضبة العالية والرابية المرتفعة. وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل يكذب صاحبه، ويدعي عليه الخطأ والجهل، فما يصفه من خلق الفيل فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم..»!
ومثل المتناسي لضرورة قبول الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين، وعلقت بأفكارهم مغالطات ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس، وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا رويّة واندرجت في محفوظاتهم... فكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول العربية ينقلون إلى عوام الناس أموراً واهية لا يُرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الآخر والحوار البناء، والمجادلة بالتي هي أحسن.
وليس الطلبة الذين عايشوا مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل مثل طلبتنا اليوم الذين إما لم يسمعوا عن اتساع صدورهم للمذاهب والأفكار الأخرى، أو إذا سمعوا وقرأوا استبصروا ولكن قليل ما هم... فقد يخطئ الإنسان وقد يصيب، والرسل وحدهم منزهون عن الخطأ، وهذا إنْ دل على شيء فإنما يدل على أن مالكاً وغيره كانوا واعين بخطورة التشبث بالرأي الواحد، وخلق أتباع يرفعون القلم والسيف بمجرد ما يفند الرأي برأي آخر أقوى أو بحجة ثابتة، وهذا للأسف الشديد وقع في بعض العصور ويقع في يومنا هذا، ولذا كانت الضرورة ماسة لإرجاع العقل إلى سماحة الدين وسماحة أتباعه، وتجذير تلك المسائل في عقول وأذهان طلبتنا منذ نعومة أظفارهم.
فما أحوج الدول أن تسير على منهجي الإمارات والمغرب في تبنيهما لقيم التسامح والتعايش، وخلق مساحة فكرية ومجتمعية تؤوي الجميع، وتمكن من بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، بدل الخنوع إلى تأثير بعض الأفكار التي اكتسبت قداسة لدى البعض بمرور الأيام، حيث تكبل الأيدي والقلوب والعقول، ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة، لأن كل شخص من ذلك النوع، يناقش وهو مصفد بقيود الأسلاف من حيث لا يشعر، وهذا هو دأب «القاعدة» اليوم و«داعش»، وكل الجماعات السياسية الدينية المسلحة.