إيلاف من الرياض: يشكّل عرض قائد الأركان الباكستاني، الجنرال عاصم منير، للولايات المتحدة الاستثمار بمبلغ 1.2 مليار دولار في ميناء باسني جنوب إقليم بلوشستان، نقطة تحوّل لافتة في ميزان القوى الجيوسياسي في جنوب ووسط آسيا، حيث يفتح بابًا واسعًا لإعادة رسم خرائط النفوذ البحري والتجاري في منطقة ذات حساسية استراتيجية متزايدة.
يقع ميناء باسني على تقاطع بالغ الأهمية عند مدخل المحيط الهندي، ويجاور ميناء جوادر الذي يعد ركيزة محورية في الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)، وهو المشروع الذي يربط الصين بآسيا الوسطى والمحيط الهندي. من هنا، تكتسب دعوة باكستان واشنطن إلى الاستثمار في هذا الميناء دلالات تتعدى الجانب الاقتصادي لتصل إلى صلب التوازنات الإقليمية والدولية.
في المقابل، وفي خطوة تعكس محاولات خلق توازن مضاد، وقعت إيران والهند اتفاقًا لإنشاء ممر تجاري يربط الهند بأوزبكستان عبر ميناء تشابهار الإيراني، ما يمنح نيودلهي منفذًا استراتيجيًا إلى آسيا الوسطى دون المرور عبر الأراضي الباكستانية، ويقلّص من ثم نفوذ إسلام آباد في تلك المسارات الحرجة.
الصين، بدورها، لم تغفل عن هذه التطورات، إذ ألمحت إلى أن تشابهار قد يمثل بديلًا استراتيجيًا أكثر استقرارًا مقارنة بباشني، في ضوء ما تشهده بلوشستان من اضطرابات سياسية وأمنية. كما لم تغب عنها معضلة العقوبات والمخاطر الإرهابية، ما يكشف عن تشابك المصالح الاقتصادية والاستراتيجية في مشهد إقليمي يزداد تعقيدًا.
يتجلى الصراع بين القوى الكبرى في رغبة الولايات المتحدة في إعادة رسم خرائط النفوذ البحري في الخليج والمحيط الهندي من أجل تعزيز أمن خطوط الملاحة وحماية مصالحها مقابل تمدد الصين الذي يتخطى الممرات البرية إلى البحار ويمتد تأثيره إلى غرب آسيا وشرق أفريقيا. في حين تدفع روسيا وتحالفاتها الإقليمية بديناميات معقدة تزيد من تعقيد المشهد الاستراتيجي.
توازن القوى بين الهند وباكستان يبقى هشًا ومشحونًا بسبب الخلافات التاريخية والصراعات المفتوحة التي تدفع كل دولة لاستثمار التحالفات البحرية والتجارية لتعزيز مواقفها الجيوسياسية بما في ذلك التوسع في البنى التحتية للموانئ ودعم العلاقات مع القوى الكبرى. في هذا الإطار، محاولة باكستان بناء وتنويع موانئها البحرية عبر مشروع باسني وإشراك الولايات المتحدة تُعد مناورة ذكية تهدف إلى تقليل اعتمادها على الصين الحليفة الأساسية التي تتلكأ في تنفيذ مشروعها في جوادر. وتقليل هجوم الهند المرتبط بتعزيز علاقاتها مع إيران وأوزبكستان. وتقليص فرص ضغط إيراني عليها.
العلاقة الباكستانية الإيرانية في ظل العقوبات الأمريكية على طهران تتسم بتداخل المصالح والتحديات، فباكستان لا تستطيع الانفصال كليًا عن طهران التي تمثل شريكًا استراتيجيًا جغرافيًا وموصلًا اقتصاديًا مهمًا، خاصة في مشاريع التعدين للمعادن النادرة وحقول ريكو ديك القريبة من باسني والتي تشكل مخزونًا طبيعيًا واعدًا. العقوبات تضغط على الاقتصاد الإيراني، ما يدفعها لتعميق تعاونها مع باكستان لتأسيس ممرات تجارية بديلة وتحويل التحديات إلى فرص، لكن هذا التوازن يظل هشًا بسبب الضغوط الأمريكية على باكستان لتحقيق تناقض في سياستها الخارجية بين إرضاء واشنطن وتأمين مصالحها الإقليمية.
عرض ميناء باسني وفتح الوصول لمناطق غنية بالموارد يعكس إدراكاً لحساسية وديناميكية التنافس في المنطقة ويمثل محاولة لتحويل جغرافيا الصراع إلى فرصة لتعزيز مكانة باكستان كفاعل إقليمي قادر على المناورة بين القوى الكبرى وتوظيف جغرافيتها في أعماق آسيا الوسطى وشبه القارة والهند والمحيط الهندي، في مواجهة تخوم السياسة العالمية الجديدة يبدو أن مشروع ميناء باسني ليس فقط تحركًا اقتصاديًا إنما خطوة استراتيجية عديدة الأبعاد تهدف إلى خلق تناقضات استراتيجية بين القوى الكبرى والإقليمية لصالح باكستان، مع الإبقاء على توازن دقيق في علاقاتها مع إيران والهند والولايات المتحدة، وسط بيئة إقليمية محفوفة بالتقلبات الأمنية والسياسية، حيث تمثل هذه النوايا فرصة مهمة لباكستان لتعزيز قدرتها على إدارة صراعات النفوذ المتداخلة في منطقة الخليج وجنوب آسيا والمحيط الهندي.
تأثير عرض باكستان ميناء باسني للاستثمار الأمريكي على الشراكة الاستراتيجية مع الصين يعكس تعقيدات كبيرة في العلاقة الثنائية بين البلدين التي تعتمد على تعاون عميق ضمن مبادرة الحزام والطريق ومشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، وقد يمثل نقلة نوعية في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
خريطة جديدة للنفوذ في الأفق
خلاصة المشهد تكشف أن التحرك الأميركي في باسني قد يعيد تشكيل شبكة العلاقات الإقليمية، عبر الضغط على علاقة باكستان بالصين، وتعقيد معادلتها مع إيران، وإضعاف موقع الهند في آسيا الوسطى، ليمنح باكستان ورقة قوة جديدة في صراع النفوذ الرباعي بين واشنطن وبكين ونيودلهي وطهران.