إيلاف من أصيلة: أظهرت ندوة "الفن وسلطة التقنية"، التي نظمت ضمن فعاليات الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي السادس والأربعين، حجم القلق وكمية التساؤلات التي باتت تؤرق الجميع، كلٌّ من موقعه، في ظل التحولات التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة، خصوصًا تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وأشار المشاركون في هذه الندوة، التي تناولت العلاقة بين الفن والتقنية، بمشاركة فنانين وباحثين وأكاديميين مختصين، إلى أن "التقنية لم تُضِف بعدًا جماليًا جديدًا فحسب، بل أسهمت أيضًا في بلورة وعي فني معاصر يُجسّد التحوّلات الثقافية والتكنولوجية لمجتمعاتنا الراهنة".
مشاركون في الندوة
وشددوا على أن "التداخل بين الفن والتقنية يثير في الآن ذاته تساؤلات عميقة"، من قبيل: "هل ما زال بإمكان الفن أن يحافظ على جوهره الإنساني في زمنٍ تهيمن فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟"، و"هل ستكون التقنية خادمة للإبداع أم بديلًا عنه؟".
ورأوا "أننا على أعتاب تطورات سريعة متلاحقة أخرى، سيكون الفنان المستفيد الأكبر منها؛ وبالتالي فكلما وصل الذكاء الاصطناعي إلى مناطق ليست في تصورنا الآن، كلما فتح أبوابًا أمام أعين المبدعين، غير أن العقل البشري سيظل دومًا هو الأساس في شحن مخيلة المبدع".
لحظات مفصلية
قال الناقد وأستاذ التعليم العالي شرف الدين ماجدولين، منسق الندوة، في كلمته التقديمية، إن سؤال الفن وسلطة التقنية "انبعث من أن التقنية باتت لا تشكل فقط قاعدة لكل اجتهاد إنساني اليوم، بل سلطة، وأننا حين نقول إنها باتت كذلك، فلأنها توجه التعبيرات وتهيمن على اختيارات الفنانين، وما يبذلونه من جهود في الإنجاز والتعبير". وأشار إلى أننا حين نقول "التقنية"، فإن الذهن ينصرف إلى كونها منتجة للوسائط والأجهزة، أي أنها تصنع تلك المسافة التي تجمع بين بُعد الأداة وبُعد الإنتاج. وأضاف: "يمكننا أن نعتبر أن تاريخ الفن هو تاريخ للاجتهاد التقني الذي بذله الذهن البشري في حقل الفن، ما يعني أن تاريخ الفن هو تاريخ تقنيات التعبير الفني".
وأوضح ماجدولين أن ثمة لحظات فارقة في هذا التاريخ، أبرزها نشأة المطبعة في القرن الخامس عشر، وما تبعها من ظهور فنون الحفر والطباعة الحجرية، وغيرها، واصفًا إياها بأنها كانت لحظة مؤسسة لدمقرطة الفنون وانتشارها، ونشأة جهاز أصبحت فيه الآلة بديلاً عن المهارة اليدوية للفنان. ثم جاءت لحظة التصوير الفوتوغرافي، التي مثّلت منعطفًا، حيث لم يعد الانشغال الفني يسعى إلى المطابقة والتمثيل فقط، بل اتجه نحو تكوين بصري جديد، مما يجعل من البديهي اعتبار الانطباعية والتجريد وليدتي نشأة الفوتوغرافيا. واليوم، يضيف ماجدولين، فنحن "حينما نصل مع الفنون الرقمية إلى لحظة ثالثة، فإننا نكاد نقول إننا نعيش انقلابًا من مرجعية المبدع إلى مرجعية الجهاز ومرجعية التقنية"، هذا، فضلا عن أن الفنون الرقمية، بتعدّد أشكالها وما تتطلبه من بيئات مؤسسية يشتغل فيها الفنان إلى جانب المهندس والمبرمج وخبراء الحوسبة، قد أوجدت لحظة جديدة تطرح أسئلة حارقة، مثل: "هل عادت لملكية التحفة مكانة اليوم؟ وأي تعبير للفنون الرقمية التي لا يكون فيها دور كبير للفنان؟ وأي مرجعية يمكن أن تكون في هذه اللحظات للمتاحف؟ وهل يمكن أن يكون لهذه الأعمال أروقة ومتاحف وأرشيف؟".
فضاء إبداعي
بدوره، قال حاتم البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، إن "التقنية أصبحت في زمننا الراهن مكوّنًا أساسيًا من مكوّنات الممارسة الفنية؛ إذ لم تعد تقتصر على كونها أداة مساعدة أو وسيطًا آليًا فحسب، بل تحوّلت إلى فضاء إبداعي مستقل يُعيد تعريف مفاهيم الفن والجمال والتجربة الجمالية ذاتها". ولاحظ أن الفنان المعاصر بات يمتلك إمكانات غير مسبوقة في التعبير والتجريب، بفضل تطوّر الوسائط الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والتصوير ثلاثي الأبعاد، والواقع الافتراضي".
علي سعيد حجازي وبجانبه حاتم البطيوي امين عام مؤسسة منتدى أصيلة
وأشار البطيوي إلى أنه "من غير الخافي أن التقنية باتت تسهم في توسيع وسائط التعبير الفني، حيث تجاوز الفن حدوده التقليدية المألوفة، المحصورة في الرسم والتصوير والنحت والتنصيبات، ليتجسّد في أشكال جديدة مثل الفن الرقمي، وفن الفيديو، والفن التفاعلي، والتركيبات السمعية - البصرية، والفن القائم على البيانات". ورأى أن "هذه الأشكال سمحت للفنان بترجمة أفكار معقدة بأساليب مبتكرة، كما مكّنت الجمهور من خوض تجارب حسّية مثيرة والمشاركة بفاعلية في العملية الإبداعية".
وأضاف البطيوي أن "الثورة الرقمية أدّت، من جانب آخر، إلى دَمقرطة الإبداع الفني؛ إذ لم يعد الفن حكرًا على النخب أو المؤسسات الأكاديمية والمتاحف، بل أصبح متاحًا للجميع عبر المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فبمجرّد أن يتوفّر الفنان على حاسوب واتصال بشبكة الإنترنت، يغدو قادرًا على التعبير عن ذاته وتقاسم أعماله مع جمهور عالمي، مما عزّز التعددية والتنوّع في المشهد الفني". وأشار إلى أن التقنية، من جانب ثالث، "فتحت مجالًا أرحب لتقاطع الفن والعلم، حيث أضحى التعاون بين الفنانين والمهندسين والمبرمجين يولّد مشاريع تجمع بين الحسّ الجمالي والابتكار التقني".
وفي المحصلة، أكد البطيوي أن التقنية "غيّرت علاقة المتلقي بالعمل الفني، إذ انتقل من موقع المتفرّج السلبي إلى دور الفاعل المشارك في التجربة الفنية؛ ليتّضح أن التقنية لم تقتصر على تطوير أدوات الفنان، بل غيّرت طبيعة العملية الإبداعية ذاتها؛ فأتاحت له فضاءات جديدة للتجريب، ووسّعت دائرة جمهوره، وقرّبت المسافة بين الفن والعلم، كما منحت المتلقي دورًا فاعلًا في بناء المعنى". ليخلص إلى أن "التقنية لم تُضِف بعدًا جماليًا جديدًا فحسب، بل أسهمت أيضًا في بلورة وعي فني معاصر يُجسّد التحوّلات الثقافية والتكنولوجية لمجتمعاتنا الراهنة"؛ غير أن "التداخل بين الفن والتقنية"، يضيف البطيوي، "يثير في الآن ذاته تساؤلات عميقة، من قبيل: هل ما زال بإمكان الفن أن يحافظ على جوهره الإنساني في زمنٍ تهيمن فيه الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟ وهل ستكون التقنية خادمة للإبداع أم بديلًا عنه؟".
اكتساب المهارات
قدّم علي سعيد حجازي، الفنان التشكيلي والباحث الأكاديمي ورئيس الإدارة المركزية لمراكز الفنون بوزارة الثقافة المصرية، عرضًا مفصلًا حول علاقة الفن بالتكنولوجيا منذ العصور القديمة وصولًا إلى عصر الذكاء الاصطناعي. وقال إن العملية الإبداعية ليست أمرًا غامضًا أو معزولًا عن البحث العلمي، كما أنها لا تُختزل في فعل فردي، بل تمثل مزيجًا من العمليات السيكولوجية المتنوعة.
ورأى أنه "لا بد للإبداع من ممارسة وجهد كبيرين في تدريب اليدين والعينين على اكتساب المهارات التقنية، لكي يصير المبدع قادرًا على تشكيل أفكاره وتحقيقها وإيصالها للمتلقي". وشدّد على أنه "قد يكون من الخطأ أن نرجع هذه القدرة الإبداعية إلى الموهبة الفطرية وحدها، ففي الفن لا يكون المبدع الأصيل مجرد إنسان موهوب فحسب، ولكنه إنسان نضج في تنظيم مجموعة من النشاطات واستخدام المواهب والوسائط من أجل الوصول إلى غاية محددة، ثم لا يكون فنه محصلة لهذه النشاطات".
وتحدث سعيد أيضا عن "تطور التقنيات واستخداماتها عبر التاريخ، أولًا على المستوى التقني، مشيرًا إلى أن التحول الأبرز جاء من تماسها مع العين في نقاط غير تقنية بالمعنى المباشر".
في سياق ذلك، استعرض سعيد الفنون في مصر القديمة، ثم عند اليونان والرومان، كما تناول الفنون الإسلامية التي "نهلت من الفنون الهندسية والرياضيات وأنتجت تكرارات مذهلة من الزخارف والخطوط والألوان". وقال إن "الفن ظل لقرون يتطور في ذاته، على مستوى التجريد واكتساب المهارات التقنية والتماس مع الرياضيات بشكل رمزي"، مشيرًا إلى أن "أول تماس مباشر مع العلم بشكل واقعي كان في أوائل القرن الخامس عشر عندما تم اكتشاف المنظور الهندسي على يد المعماري الإيطالي فيليبو برونلسكي". وأضاف: "ثم جاء اختراع آلة الطباعة، الذي كان طفرة وقتها وأحدث ثورة في إدراك البشر وقدرتهم على وصف العالم الذي يعيشون فيه من خلال إنتاج الكتب والصحف وغيرها بكميات كبيرة".
وأكد سعيد أن "المنظور الهندسي غيّر الكيفية التي يرى بها الإنسان العالم، بينما غيّرت آلة الطباعة كيف يشارك الإنسان رؤيته مع الآخرين". وأشار إلى أن "العلم والفن لم يتوقفا عن التطور في خطوط متوازية حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدأت محاولات لفهم التجربة الفنية عبر البحث العلمي، بعد أن توصل العلم إلى آلة الكاميرا".
وأوضح سعيد أن "الصورة الفوتوغرافية، منذ ولادتها في القرن التاسع عشر، شكلت تحديًا صارخًا للفن التشكيلي في العالم؛ فمكتب الفنان، على مدى قرون، كان أشبه بمختبر علمي يُعيد فيه بناء الواقع، ويطوّر التجربة الفنية في ذاتها". لكن مع ظهور الحداثة واختراع الكاميرا، "أصبح لا بد من ثورة في المفاهيم والأساليب الفنية، ثم جاءت السينما، كفن وصناعة، لتفرض بدورها تحوّلًا جذريًا".
ورأى سعيد أن "الفنانين، بذكاء العقل المبدع، نجحوا على مرّ التاريخ في تطويع التكنولوجيا لخدمة أفكارهم وتطوير أساليبهم الفنية".
وشدد على القول "إن التاريخ سيعيد نفسه في عصر الذكاء الاصطناعي؛ فمع هذا التطور المذهل وتغلغل الذكاء الاصطناعي في مختلف مناحي الحياة، ورغم ما يثيره في البداية من تهديد وجودي للفنان المعتمد على الإحساس والخلق، فإن العقل البشري، ولا سيما تفكير الفنان المبدع، قد تطور في ذاته بفعل الممارسات الأسلوبية المتواصلة". وتابع: "ومن ثم، فإن التطور المواكب للذكاء الاصطناعي سيؤدي في النهاية إلى تطويعه لكي يُعين الفنان الحقيقي على إنجاز أعمال لم يكن يتصورها لولا هذا التقدم الكبير في التكنولوجيا".
التقنية والإنسان
قدمت شو سين شين، الفنانة الفرنسية من أصول تايوانية والأستاذة بجامعة باريس 8، عرضًا تركيبيا انطلق من اشتغالها في مجال تكنولوجيا الفن، الذي يُعدّ مجال اختصاصها؛ لذلك "تحدثت عن توظيف الذكاء الاصطناعي في ميدان الفنون"، من خلال تناولها لـ"التقنية كحاضنة خيالية فنية".

شو سين شين
وأبرزت شين، في مداخلتها، دور التقنية في حياة الإنسان، وبالتالي في حياة المبدع، متوقفة عند الثورة التكنولوجية وأثرها كوسيلة للتعبير الفني. وشددت على أن "الفنان يُعرف ويتميز بحساسيته الفنية، وقدرته على خلق فنه الخاص"؛ حيث استعرضت التطورات التقنية التي عرفها القرنان الماضيان، مسلطة الضوء على لحظة ظهور السينما، ثم على التحولات التكنولوجية المتلاحقة، التي يبقى الذكاء الاصطناعي أبرزها حتى الآن، مرورا ببدايات ثورة المعلوميات.
وفي معرض مداخلتها، قدمت شين لمحة عن تجربتها البحثية الطويلة في الموضوع، من خلال عدد من أعمالها التي بدأتها في تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، والتي تتعلق بـ"الابتكار الفني الرقمي".
حرية ومقاومة
قدم يوسف مريمي، الأكاديمي والباحث المغربي في الجماليات بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، عرضا تحدث فيه عن جماليات التقنية، مشيرا، في مستهل مداخلته، إلى أن "ربط السلطة بالتقنية يفصح عن وعي بالتحولات الكبيرة التي تفرضها التقنية على الفن".
وأشار مريمي إلى أن "هذه السلطة تواجه دائما بالحرية والمقاومة"، وأضاف أنه "كلما حضرت السلطة في عنوان ما، حضر لفظ مقاومة أو حرية".
وتطرق مريمي إلى وجهات الباحثين في الموضوع، وكيف رأى بعضهم أن "انتصار عالم التقنية معناه خسارة عالم الحرية؛ إذ أن الفنان حين يطوق بسياج التقنيات يصير فريسة لسلطها، التي منها اليوم السوق الاقتصادي، والإشهار، والموضة، وغيرها. وتبعا، لكل هذا أمسى الذوق نفسه منتجا موجها ومأسورا داخل دائرة الاحتكار والمركزية المعلوماتية".
وقال مريمي إنه يرى أن "التقنية هي جزء من الثقافة، بل هي مزيج بين الثقافة والطبيعة وملكة المخيلة باعتبارها ملكة الملكات"، وذلك بعد أن تساءل "هل بالإمكان الحديث عن جماليات التقنية، وهل تحمل التقنية إمكانا للتحرر والإبداع إذا ما أعيد استئنافها وتوجيهها من منطق السيطرة إلى منطق الإبداع الجمالي".
ورأى مريمي أن "عمق التصور في جماليات التقنية هو أنها ترفض أن تختزل إلى العلم والاقتصاد والسياسة لكي تعبر عما يسميه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بمفهوم المقاومة". وأضاف أن "العمل الفني، مثل العمل الفلسفي أو غيره، هو عمل مقاومة لمعطى أن يكون الإنسان أبلها، كما أنه فعل مقاومة للتفاهة واستسهال العمل الفني باستحضار تصورات "تقنوية" تنساق للدعاية والذوق الجاهز والموضة؛ وفتح ظروف للحرية من حيث يكون الفن"، قبل أن يخلص إلى أنه "ليست تمة سلطة، وأنه لا سلطة تعلو على سلطة الفن، إذ ليس تمة سوى الحرية".
آلات مفترضة
من جهته ، قال محمد نور الدين أفاية، المفكر، وعضو أكاديمية المملكة المغربية، في معرض تسييره للجلسة الثانية، إن "للتقنية دلالات متنوعة، وأننا نلجأ، في كثير من الأحيان، إلى اختزالها في مسألة الآلات المفترضة أو التي يمكن إدماجها في عملية تحويل المواد الفنية إلى منجز جمالي، لكننا ننسى أن التقنية مكونة للفعل الإبداعي نفسه، فضلا عن هذا الذي نسميه بالآلات والآليات التكنولوجية، منذ بداية الكتابة إلى ما نشهده اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي".

محمد نور الدين أفاية
انعكاسات
تحدثت بربارة ساتر، وهي أكاديمية وناقدة فنية ومديرة المدرسة العليا للفنون الجميلة بإكس أون بروفانس في فرنسا، عن "مرايا الفن والانعكاسات المختلفة"، و"ما يمكن للإبداع الفني أن ينتجه من أبعاد معاكسة".
وقاربت ساتر مداخلتها انطلاقا من خلفيتها كمؤرخة للفن ومشتغلة في مجال البيداغوجيا؛ فتطرقت إلى "علاقة التقنية بالصورة، والكيفية التي يمكن بها للفنان هدم الأساطير لبناء سرديات وخيالات جديدة، تصير خلالها التقنية، أحيانا، موضوعا للأثر الفني".
بربارة ساتر
وتحدثت ساتر عن "الرهان من وراء كل هذا الحديث عن سراب أو معجزة التقنية"، انطلاقا من ثلاثة نماذج لفنانين فرنسيين، تبين فيها "طرق إنتاج الصور والتلاعب بها، وما تفرضه علينا هذه التلاعبات الإبداعية من تحدي فهم ما وراء هذه الصور". وبالنسبة لساتر، ف"الحقيقة الوحيدة للتقنية في الفن هي تلك التي تتعلق بأن يكون ناقلا للخيال".
آفاق إبداعية
رأى جعفر عقيل، الأكاديمي والباحث في الفوتوغرافيا بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، أن "الفوتوغرافيا، كما هي اليوم، تفرض علينا التفكير في مختلف التحولات التي عرفتها الصورة الفوتوغرافية، بشكل أثر في التمثلات والتخيلات والعلاقات التي يؤسسها الفوتوغرافي مع الواقع وفي المساحات والآفاق الإبداعية التي تفتحها أعماله أمام ناظره". ورأى أن "الفوتوغرافيا عرفت في العشرية الثانية من القرن الجاري تحولا تمثل أساسا في توظيف مجموعة من الآليات والخوارزميات والتطبيقات، سواء قبل إنجاز الصورة أو خلاله أو بعده، الشيء الذي خلف مجموعة من ردود الأفعال المؤيدة أو الرافضة".
جعفر عقيل
وتطرق عقيل إلى "مجموعة من الأسئلة الجديدة والمغايرة التي طفت أخيرا، وسرعان ما فرضت نفسها بحدة، كالتساؤل عن معنى الجمال في ضوء هذه التطورات، وما هو الفهم الجديد الذي صار يأخذه العمل الفني، ثم تأثيرات هذه التحولات في سوق الفن. وبمعنى أشمل، ما هي الثقافة الجديدة التي حملتها معها هذه التقنية، وما هي آثارها في الفوتوغرافي ومن تم في الإبداع والثقافة الإنسانية عموما".
وشدد عقيل، في معرض توقفه عند بعض تحولات الفوتوغرافيا في الزمن الراهن، على أنها طرحت سؤالا حول ماهية العمل الفوتوغرافي، وكيف صارت التقنية شريكا له في التغلب على بعض التحديات والإكراهات الفنية سواء في مرحلة الإنتاج أو ما بعدها؛ غير أنها "لم تمنع مع ذلك من الشعور بالخوف والتردد أمام هذا الوافد، وذلك توجسا من أي انزلاق نحو ما يمكن أن يكون مبالغة في استخدام المؤثرات البصرية".
وقال عقيل إن "الانتشار السريع والاستعمال السلس والتلقي المتزايد للتقنية في شق الذكاء الاصطناعي على مستوى مجال الفوتوغرافيا، قد نشأت عنه آثار مختلفة منها ما يتعلق بالانزياح عن الإدراك الفني المتعارف عليه، ومنها ما هو مقترن بمعاني الفوتوغرافيا ودلالاتها التي كانت إلى عهد قريب ترتكز على حسن النظر وإمكانات التجربة الإنسانية".
وأشار عقيل إلى أن "هذه التحولات ستتولد عنها مجموعة من التصورات والرؤى الجديدة عن الثقافة والفن والارتباطات التي تؤسسها ذات الفرد مع محيطها، وعن الصيغ الفكرية والفنية التي توظفها؛ الشيء الذي يطرح مسألة تمثيل الواقع والوقائع فيها وحدود تفاعل النظر معها، ثم الحديث عن المساحة التي تخلقها هذه الفوتوغرافيات مع النسخة ومع المزيف بشكل عام، وخاصة كيف تؤثر هذه الفوتوغرافيات في مشاهدها وفي تشكيل وجدانه وتمثلاته للواقع".
وتحدث عقيل عن "سلعنة" الصورة الفوتوغرافية، مشيرا إلى أن "الإيقاع السريع في نشر الصور واستهلاكها، بقدر ما أسهم في ترسيخ ثقافة مجتمع الفرجة، شارك في إنتاج التضليل والشك في حقيقة الأشياء والوقائع".
وبالنسبة لعقيل، فقد "كانت الفوتوغرافيا توثيقا وتسجيلا وأثرا لحدث كان موجودا، أما مع الذكاء الاصطناعي، فقد صارت الصورة تعطي للمشاهد انطباعا واقعيا لشيء غير موجود أصلا ولم يحدث أبدا، لتجد عين المشاهد نفسها مضطرة لأن تغير علاقتها بالوقائع وبكل ما يحيط بها".
ورأى عقيل أن وضع المشاهد المعاصر انتقل مع التطورات التي ألحقتها به هذه التقنية، من زمنية المألوف إلى زمن صورة الشيء، فلم يعد بإمكان الصورة أن تتخيل الواقع، لأنها حلت محله، وتلك معضلة الإنسان المعاصر مع الصورة عموما، وضمنها الفوتوغرافيا التي أنجزها الذكاء الاصطناعي.
بين السحر والهالة
تحت عنوان "سحر التقنية وهالة الفن"، قال عبد الواحد آيت الزين، الأكاديمي، والباحث في الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس في الرباط، إن هناك شيئا ملتبسا في العنوان، وهذا الملتبس هو ما تترجمه، من وجهة نظره، أسئلة من قبيل "كيف نربط السحر بالتقنية وهو الأقرب إلى الفن، وألم تكن التقنية وراء خبر نزع السحري عن العالم، خلافا للفن الذي رام دوما إيقافنا على سحر العالم".
عبّد الواحد ايت الزين
وأضاف آيت الزين أننا "عندما نلغي الجانب السحري والشعري والكشفي في التقنية الذي يشدها إلى الفن ويصلها به، فإنها تبدو بدورها أثرا فنيا، وعندما نختزلها في مجرد أدوات ووسائل وطرائق وأنظمة تخص الصنع والإنتاج، ينتصب الفن، في هذه الحالة، بوصفه مقابلا لها ومحكا حقيقيا لاختبار سحرها وإعجازها".
وخلص آيت الزين إلى أن "الفن بهالته بوابة من الصعب اقتحامها تقنيا، لأن مفاتيحها وشكل عملها مختلف جذريا عما يملكه سَحرة التقنية من إمكانات وقدرات".
الذكاء الاصطناعي في الفن
قدم ميكائيل فطري الداودي، الأكاديمي، ومنظم المعارض، ورقة أعطاها عنوان "أن نحلم مع الآلة.. الذكاء الاصطناعي في الفن"، توسع في الحديث فيها عن "ممكنات الحلم مع الآلة"، وكيف أن "لهذا الحلم وجها آخر يطرح علينا ثلاثة تحديات، تتعلق بالامتلاء أو التشبع، والتوجيه، فضلا عن أشكال مختلفة من مراقبة الميولات. وأنهى بالإشارة إلى المخيلة الموزعة".