: آخر تحديث
لأن الشر لن يكون بطولةً ولن يكون

تولستوي يعود أوبراليًا... لتدقّ طبول السلام!

10
11
12

إيلاف من لندن: في عام 1904، ألّف الأديب الروسي ليو تولستوي نصًا مؤثرًا، سمّاه "تفكروا وتدبّروا" (!Bethink Yourselves)، أعلن فيه مناهضته للحرب، في عزّ الصراع الروسي – الياباني الذي شارك فيه بنفسه ضابطًا في سلاح المدفعية، وكتب فيه: "إنها المعاناة مرة أخرى، ولا مبرر لها، إنه الاحتيال مرة أخرى، إنه الذهول من وحشية الإنسان". 

كانت هذه الكلمات بيان تحول تولستوي إلى داعية سلام، كما كانت إلهامًا حلّ على فريق من الموسيقيين المبدعين استعادوا اقتباس الملحن الروسي سيرغي بروفوكييف رواية تولستوي "الحرب والسلام" المنشورة في الأصل في عام 1867، وحولوه عرضًا أوبراليًا استمر خمس ساعات في أوبرا بافاريا بميونيخ. ربما تكون العلامة الفارقة فعليًا في هذا العرض الموسيقي الضخم أنه يأتي فيما تستمر الحرب الوحشية بين روسيا وأوكرانيا، خصوصًا أن حوادث الرواية حربية بامتياز، تتناول دفاع الروس عن بلادهم حين غزاهم نابليون بونابارت في عام 1812.

عرضت هذه الأوبرا أول مرة في 5 مارس(آذار) الماضي.
ولمن لا يعنيه هذا التاريخ كثيرًا، فقد توفي بروفوكييف والديكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين في 5 مارس(آذار) 1953.

وبقيادة الموسيقار فلاديمير يوروفسكي، مدير أوبرا بافاريا، وتحت إشراف المخرج الروسي ديمتري تشيرنياكوف، قرر الفريق الإبداعي الذي أخذ على عاتقه تنظيم هذه الأوبرا أن ينبذ اليأس الذي زرعه فيه الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في 24 فبراير(شباط) 2022، وأن يغامر في الاستمرار في إنتاج أوبرا "الحرب والسلام"، إحساسًا بالمسؤولية والتزامًا بالفن وسيلةً للتعبير عن رفض المأساة، خصوصًا أن تولستوي - في مجلدات "الحرب والسلام" الأربعة - حلل طبيعة العنف، ووجد أنه لا يمكنه تغيير العالم، مهما سبب من معاناة للبشر. بفضل مهارته الفنية والنفسية في كتاباته عن هذه الأفكار الراديكالية، صار نبيًا للسلام.
 

الأديب الروسي ليو تولستوي

وتنقل صحيفة "إيكونوميست" البريطانية عن أندري زورين، كاتب سيرة تولستوي الذاتية، قوله إن تولستوي ما كره الحرب خوفًا من الموت، "إنما لأنها تسمم الروح البشرية وتغرقها بالأكاذيب والكراهية".

تتكشف كل الأكاذيب وأسباب الكراهية على خشبة أوبرا ميونخ، حيث تطرح أسئلة وجودية مهمة: "لماذا يتغرَّب الناس عن أوطانهم ليقترفوا جرائم قتل بحق من لا يعرفونهم؟ كيف يتحول البشر وحوشًا تمارس العنف وتتلذذ بالحرب؟" هذه أسئلة ما زالت معاصرة بالرغم من أن كاتبها رحل عن عالمنا منذ أكثر من قرن، حتى أنها ماثلة اليوم في حاضر روسيا ومستقبلها.

أين العدو؟
تقول أناستاسيا بوتسكو في "دوتشيه فيلا" إن بروكوفييف ألّف عرضه الأوبرالي في عام 1941، وكانت بلاده الاتحاد السوفياتي تعاند الغزو النازي.
وقد اختبر هذا الملحن العنف على أكثر من محور: في الثلاثينيات، وجد نفسه معنفًا في ظل سلطة سوفياتية لا تحبذ الاتجاه الحداثي في الموسيقى، فحُظرت عروضه بحجة معاصرتها. انكب على إصدار نسخ مختلفة من "الحرب والسلام" حتى وفاته، لكنه ما استطاع أن يشهد نسخةً نهائية كاملة من هذه الأوبرا.
اليوم، لو كان له أن يشاهد هذا العرض، لرأى حشدًا كبيرًا من نجوم الأوبرا من أوكرانيا وروسيا ولاتفيا وليتوانيا وأوزبكستان وبيلاروسيا وأرمينيا، إلى جانب موسيقيين أوروبيين أيضًا، ولاستمتع بأداء المولدوفي أندريه زيليكوفسكي في دور الأمير أندريه بولكونسكي، والسوبرانو الأوكرانية أولغا كولشينسكا في دور ناتاشا روستوفا.

في هذا العرض الأوبرالي الضخم، والمتجذر في تاريخ منطقة مستعرة اليوم بحرب قاسية، يضع تشيرنياكوف الحرب في قلب موسكو، إذ يتحول المسرح التي تقع فيه جرائم القتل، بحسب الرواية الأصلية، إلى نسخة من تلك القاعة ذات الأعمدة بمجلس نقابات العمال في موسكو، وهذا موقع يألفه كل روسي، ويحتل مكانة مركزية في تاريخ روسيا. كيف لا فيه مدفن ستالين نفسه! 

بحسب "إيكونوميست"، لا افتتاحية في الأوبرا الجديدة، إنما عرض مقتبس من نص "تفكروا وتدبروا" نفسه، يقرأ موشحًا على أنغام الكمنجات التي رسم بروكوفييف خطاها. حين ترفع الستارة، لا سلام خلفها، "إنما فراشات مرمية على الأرض، تشبه وضع المشردين واللاجئين". البطل مقاوم دائمًا، والحرب مستعرةٌ، لكن.. أين العدو؟ تقول الصحيفة البريطانية: "الغزو لا يأتي على هيئة جنود فرنسيين، إنما ينبع من الداخل. ولا حدود تنتهك، إنما هياكل الإنسانية والروابط العائلية وعروة الحب.

جوقة ضخمة تستهل الفصل الثاني بطبول الحرب وأناشيدها. يندفع الحشد نحو جنون وطني". وذلك كله مستلهم مما نصه تولستوي في ذلك البيان في عام 1904: "ليست الإثارة الحماسية الهذيانية المغشوشة التي أصابت علية القوم في المجتمع الروسي الآن إلا دليلًا على ضمير يملؤه الذنب. فإن الوعود الكاذبة بالاستعداد للتضحية بالحياة (بحياة الآخرين ربما) وبالدفاع بالصدور العارية عن أرض لا تخصك، كانت كلها أعراضًا يملؤه الذنب. فهذا الجنون شكل من أشكال الذات المدمّرة". ويصل الأمر إلى غايته القصوى بما كتبه تولستوي: "قاتل بدأ في اغتيال ضحيته لا يتوقف". 

ماريا ألبرتيني، حفيدة إبنة تولستوي، تحمل نسخة روسية من روايته "الحرب والسلم" في بيتها في كراس مونتانا 

روح الثورة ومرآتها
ربما تستعيد هذه الملحمة الأوبرالية روح تولستوي الثائرة، في بلاد ثارت يومًا فقلبت مقاييس العالم رأسًا علىعقب، قبل أن تعود فترزح تحت مير الظلم والاستبداد، حينًا بحجة الحرب والنازية، وأحيانًا بحجة مصلحة السوفيات العليا. إلا أن تولستوي بقي ذلك المحرّض على السلام. ففي عام 2010، في مئوية وفاته، أعلن مشروع "InLiberty" التعليمي الروسي أن تولستوي أيقونة اللاعنف، قبل نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي. 

ولا ننسى أن المعارض الروسي المسجون أليكسي نافالني وقف في أثناء محاكمته وألقى خطبة مقتضبة استلهمها من كلام تولستوي، فقال: "الحرب نتاج الاستبداد، ومن يرغبون في خوضها، سيكون الاستبداد خصمهم الأول". وما كانت هذه المرة الأولى التي يستدل بها نافالني بكلمات تولستوي. ففي فيلم يتناول قصر بوتين السري على البحر الأسود، صدر في يوم اعتقال نافالني في عام 2021، استحضر تولستوي ليصف حكام روسيا: "اجتمع الأشرار ونهبوا الناس واستأجروا جندًا وقضاة ليحرسوا عربدتهم، وهم يقيمون الآن المآدب احتفالًا".

وبعد أيام من توغل القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية في فبراير 2022، تسلح بعض الروس الرافضين للحرب بكلمات تولستوي، فاعتقلت السلطات الروسية رجلًا رفع نسخة من كتاب "الحرب والسلام" في الساحة الحمراء.

يوم توفي تولستوي، كتب المخرج المسرحي الروسي كونستانتين ستانيسلافسكي: "ما أسعدها أيامًا عشناها في زمن تولستوي، وكم نخشى البقاء على هذه الأرض في غيابه". قيل عنه "مجنون" لأنه رفع لواء السلام واللاعنف في ظل نظام يقوم على العسكرة والتجييش، لكن لا ننسى أن لينين، ابا الثورة البولشفية، وصفه بأنه "مرآة الثورة الروسية"، وسعى إلى تكريسه رمزًا وطنيًا، حتى أنه أذن في عام 1920 بنشر أعماله الكاملة.

اليوم، تعيده الموسيقى الأوبرالية رمزًا لسلام بين بلدين صار شبه مستحيل. فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي "أمر" بالتوقف عن نشر أي كتب روسية، أو إصدار أي موسيقى روسية. وحدها أوبرا "الحرب والسلام" استثناء، لأنه يعرف أن السلام سيأتي يومًا، ولو على أنقاض البلدين. أوكرانيون كثيرون لاموا أولغا كولشينسكا لمشاركتها روسًا في هذه الأوبرا، لكنها تعرف – كما يعرف رئيسها – أن الرسالة من هذا العرض قد تكون أول بارقة أمل في هذا العبث الدموي.
أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونوميست" و"دوتشيه فيلا"


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار