: آخر تحديث

أرض القصيدة خضراء

10
8
10

القصيدة، في رأي هارولد بلوم، هي قلق مُنجز. كل قارئ عميق يسأل: «من كتب قصيدتي؟» في كل عمل عبقري نتعرف إلى أفكارنا المهجورة، إنها تعود إلينا بقدر معين من السمو المغترب. هذا ما أفلح فيه شعراء كثر، بينهم محمود درويش، في تعبيره عن إحساساتنا، التي نعرفها، لكننا لا نُحسن قولها، إنه يرتقي بالمألوف، حين يجعل منه شعراً، في حين نَعبرُ نحن بمحاذاة ذلك بلامبالاة، أو على الأقل بدرجة من الحياد.

بلغ محمود درويش ما بلغ من مكانة شعرية عبر حياة حافلة، لا بالمعاناة وحدها التي هي قدر أجيال من الفلسطينيين مستمر حتى اللحظة، وإنما أيضاً بالإقبال على الدنيا بحبّ، وبرغبةٍ في تملّك كل ما فيها من جمال، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إذا ما استعرنا تعبيره هو، رغم أن المنفى، كما يقول الناقد عبده وازن، ظلَّ مستمراً في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة أرض في فلسطين، فوجوده لم يغيّر شعوره بالمنفى المستمر معه من ماضيه إلى مستقبله. «مَن أنا دون منفى»، يقول درويش، وهو في ذلك لسان حال كل من خبروا المنفى، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش في غيبوبة تعرض لها أخافا الشاعر. فما أخافه موته الشعري إذا حصل فهو الأقسى، لذلك جعل من الموت الشعري الموت الفعلي، الذي واجهه بالشعر.

الموتى الكبار يعودون، يقول هارولد بلوم، لكنهم يعودون لابسين ألواننا، متحدثين بأصواتنا، على الأقل في لحظات نادرة، لحظات تشهد على عنادنا، لا على عنادهم. إذا عادوا محتفظين كلياً بقوتهم، فعندها سيكون الانتصار انتصارهم.

كنا سنحسب محمود درويش واحداً من هؤلاء الموتى الكبار الذين يعودون، لولا أننا نعلم أنه لم يمت، ليس لأنه نسي أن يموت كما يقول في «لا تعتذر عما فعلت»، وليس فقط لأن الفنون الجميلة، والشعر بينها، هزمت الموت، كما في «الجدارية»، ولكن لأنه يبقى في ذاكرة الشعر المعاصر، لا العربي وحده، وإنما الشعر الإنساني برمته، هو الذي حوّل الملموس مجرداً، من خلال الشعر، في نصوصه العميقة، خاصة الأخيرة منها، في «لماذا تركت الحصان وحيداً»، و«كزهر اللوز أو أبعد»، و«لا تعتذر عما فعلت»

وفي «الجدارية» بالطبع وهو يقترب من التأملات الفلسفية تجاه قضايا الحياة والموت والخلود والحب، واثقاً من أن أرض قصيدته خضراءُ عاليةٌ على مهلٍ يُدونها، ويُورثها لمن يتساءلون: «لمن نغني حين تنتشر الملوحة في الندى، ولأنه كلما آخى سنبلةً تعلم البقاءَ في الفناء وضده، هو حبة القمح التي ماتت لكي تَخَضر ثانيةً، لأنَ في موته حياة».

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.