يرى عدد من المتتبعين لحاضر مدينة مراكش أن الفضل الكبير في خيار التوجه السياحي للمدينة الحمراء، قد ساهم فيه، بشكل خاص، تاريخها الذي يشهد عليه عدد لا يكاد يحصى من البنايات الأثرية التي توفر للسائح فرصة التعرف على حضارة تختصر جانبا كبيراً من تاريخ مدينة عرف المغرب باسمها على مدى قرون طويلة.
وإلى الأبواب الكثيرة والأسوار المترامية والمتاحف والساحات والأسواق والحدائق المتعددة، تشكل القصور التاريخية نقطة ضوء كبيرة في خريطة البنايات الأثرية بالمدينة الحمراء.
مراكش : من بين قصور مراكش التاريخية، يتميز "قصر الباهية"، فضلا عن قيمته، كتراث مادي، بالحكايات التي تحيط ببنائه، وارتباط تسميته بامرأة، بشكل يبرز مساهمة النساء في صنع تاريخ المدينة الحمراء، بشكل خاص.
مثال للأنوثة المغربية
ويقع "قصر الباهية" في عمق المدينة القديمة، بـمنطقة "روض الزيتون الجديد"، على بعد خطوات من ساحة جامع الفنا الشهيرة. وقد استكمل بناؤه في القرن التاسع عشر من طرف أحمد بن موسى، الرجل القوي، في مغرب القرن التاسع عشر.
وتربط الكتابات التاريخية "قصر الباهية" باسم "الباهية"، زوجة الحاجب الملكي، الذي توفي سنة 1900، والذي اشتهر بلقب "باحماد"، والذي يردد البعض أنه بنى "قصر الباهية" حتى يكون دليل مودة وحب، في سمفونية امتزجت ضمنها حكايات العشق بالهندسة، كما توحدت عبرها المشاعر بالزخارف فأعطت صورة مميزة عن عمق الحضارة المغربية في بداية القرن العشرين.
وتذكر الكتابات التاريخية أن "باحماد" جلب أمهر الصناع والحرفيين المغاربة للاشتغال في بناء وزخرفة القصر، فيما يرى عدد من المهتمين بتاريخ مراكش أن "قصر الباهية"، إن كان قطعة فنية بهية المنظر، وتحفة معمارية تفيض بتجلياتها الحضارية، فهو، قبل كل هذا وبعده، وثيقة تاريخية تطوي في مضامينها تقاليد أهل مراكش وأنماط عيشهم، كما تسمح بإعادة تركيب صورة المرأة المغربية آنذاك، ودورها في الحياة الخاصة والعامة.
ونظراً لعلاقة القصر بالسيدة التي أخذ اسمها، يرى بعض المهتمين بتاريخ المدينة، في "الباهية"، مثالا جميلا للأنوثة المغربية، وتأكيداً لافتاً لمدى تأثير الحب على المعمار المراكشي، وتراوحه، في بعض الأحيان، بين السلطة والعشق.
ويقرأ زائر "قصر الباهية"، في لوحة علقت على مدخله الرئيسي: "أنا البهية كما يدل على ذلك اسمي؛ أضم أحد أرحب قصور المدينة العتيقة الذي تبلغ مساحته قرابة هكتارين. وأنا من عمل الصدر الأعظم آنذاك أحمد بن موسى الملقب بـ"بّــاحماد" (وأبيه الحاجب موسى البوخاري) الذي أمر بتشييدي إبان شيخوخته بين 1894 و1900. أتوفر على مساحات وحدائق وقاعات فسيحة ومرافق يضاهي بعضها بعضا من حيث الجمال ورونق المعمار والمنظر الطبيعي: فناء كبير يمثل مدخلا إلى الأشجار الباسقة؛ الرياض الصغير الذي تحيط به قاعات فسيحة ومقصورات؛ الفناء الصغير المفتوح الذي كانت غرفه تضم شقق الوزير؛ فناء الشرف بطول 50 مترا وعرض 30 مترا ، وقاعة المجلس الباذخة التابعة له؛ الرياض الكبير بنباتاته الوفيرة الذي تحيط به قاعات فسيحة ومشاك؛ وأخيرا، شقة أخرى خصوصية تتكون من قاعتين فسيحتين ومشكاتين تطلان على فضاء مغطى. وكل ذلك مزخرف بالزليج والجبس المنحوت وبخشب ملون برقة نادرة".
شهادة على فن العمارة المغربية
حين يلج الزائر إلى داخل "قصر الباهية"، يجد في انتظاره مفاجآت عمرانية فاتنة، مع مقتطفات تعرف بالمكان وحكاية بنائه، بينها: "بني "قصر الباهية" في فترتين متقاربتين من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، على مساحة تقدر بثمان هكتارات، حيث يشكل شهادة فريدة على فن العمارة المغربية في تلك الفترة.
وتعتبر دار السي موسى الموجودة في الجهة الشمالية، النواة الأولية لقصر الباهية، وكانت تضم الرياض الكبير والساحة الشمالية بمرافقها، فقد تم بناؤها ما بين 1866 و1867 على يد موسى ابن أحمد، حاجب السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان (1851 _ 1873) والصدر الأعظم إبان حكم المولى الحسن (1873 _ 1894). لم يكن المولى عبد العزيز (1894 _ 1908) يتجاوز من العمر أربعة عشر عاما حين خلف والده السلطان المولى الحسن على الحكم، وهو الأمر الذي مكن الحاجب أحمد بن موسى (باحماد) من أخذ زمام الوصاية على العرش إلى حين وفاته سنة 1900.
وعمل هذا الأخير إلى جانب تسييره لأمور السياسة والحكم على التفرغ لتوسعة دار أبيه سي موسى التي ستعرف فيما بعد بـ"الدار الباهية". وقد تمثلت أشغال التوسعة تلك في تحويل العشرات من المنازل والدور المجاورة إلى أجنحة ومرافق متعددة بواسطة المهندس المغربي محمد بن المكي المسفيوي، وبعدد هائل من الصناع المغاربة الذين تم استقدامهم من مختلف الحواضر المغربية، حيث امتدت أشغال البناء والزخرفة ست سنوات متواصلة (1894 _ 1900). وقد ضمت هذه الدار في الأصل إضافة إلى الأجنحة المزارة حاليا، مسجدا وحماما وأكدالا (حديقة كبرى يتوسطها صهريج مائي كبير)، ومساكن خاصة وحدائق وإصطبلات شكلت جميعها قصرا ممتد الأطراف ومتعدد الوظائف".
ومن بين الأجنحة المفتوحة، حاليا، في وجه الزوار، نجد "الرياض الصغير" الذي يحتوى على حديقة بأربعة أحواض مغروسة ومحاطة بدربوزين، وتتوسط ممراتها المبلطة بقطع الزليج نافورة رخامية. كما تحتوي أيضا على أبهاء متجاورة في الجهة الغربية، وثلاث قاعات بأروقة ذات أقواس تعلوها أساقف من خشب الأرز التي تذكرنا بالنمط التقليدي الذي عرفته العمارة المغربية خصوصا في المدارس العتيقة في كل من فاس ومراكش.
الرواق الجنوبي
ويتميز الرواق الجنوبي بوجود كتابات تاريخية على الإفريزات الجبصية التي تعلو اثنين من أعمدته، حيث نقرأ: "كمل هذا الرياض (الرياض) المبارك بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه الجميل رمضان المعظم 12 عام 1315" (الموافق لسنة 1898). وأهم ما يميز القاعات الثلاث هي الزخارف الملونة للسقوف الخشبية وللنوافذ والأبواب كالنجمة الدائرية الكبرى ذات الأربع والعشرين فرعا والتي لونت على أبواب القاعتين الجنوبية والشمالية. أما القاعة الكبرى التي نمر إليها مباشرة عبر القاعة الشرفية، والتي وظفت كمكتب للمقيم العام الفرنسي خلال فترة الحماية (1956 _ 1912)، فتشتمل على بهوين بديعين وعلى سقف خشبي مزخرف من نوع "الجفنة" والذي تخترقه فتحات لدخول ضوء النهار. ومن المرجح أن يكون هذا الرياض هو مقر ديوان الحاجب باحماد.
الساحة الشرقية
أما الساحة الشرقية ، أو ساحة الرخام الكبرى، فهي عبارة عن فناء واسع، يمثل أكبر ساحات القصر، تحيط بها أروقة بـ 52 عموداً من الخشب. وقد شيدت هذه الساحة على أنقاض حدائق وإسطبلات ما كان يعرف بدار سي موسى. وهي عبارة عن صحن مستطيل تحيط به أربعة أروقة مرتكزة على أعمدة خشبية شبيهة بالطراز الإيطالي. ويزين بلاط هذا الصحن قطع من الرخام الأبيض وممرات من الزليج الأخضر ونافورتين رخاميتين تتوسطهما ثالثة كبيرة محاطة بصهريج مائي صغير. وتضم هذه الساحة إلى جانب الغرف المنتشرة على طول الرواقين الجنوبي والغربي حماما صغيرا، والقاعة الشرفية أو قاعة الاستقبال التي تعتبر أكبر قاعة في القصر، التي تم بناؤها في وقت متأخر كما تدل على ذلك السنة التاريخية (1316)، حوالي 1899، المنقوشة على إفريز الجبص الذي يعلو زليج واجهة الجدار الداخلي الأيمن لمدخل القاعة. هذا فيما تعرف ساحة الرخام الصغرى بـ"وسط الدار"، وهي عبارة عن سكنى خاصة ذات صحن مبلط بقطع الرخام والزليج وتتوسطه نافورة من الرخام تطل عليها أربعة غرف كبيرة مغطاة بسقوف خشبية مختلفة الأشكال ومتنوعة الزخارف.
جناح الزوجة النبيلة
لا تذكر المطويات التعريفية بداخل القصر، على وجه التحديد، اسم "الزوجة النبيلة" أو "الزوجة المفضلة" التي أعطت لهذا الجناح هذه الوظيفة، بالرغم من أن بعض المصادر تشير إلى اسم "لالة زينب" أخت الباشا "ابن داوود". وينفرد جناح الزوجة النبيلة عن باقي أجنحة القصر بطابعه الهندسي والفني معا، حيث يتكون من صحن مزين بالزليج ومغطى بسقف خشبي مزخرف، وتنفتح عليه حجرتان مختلفتا الحجم والشكل، وبهوان متقابلان، أحيط إطارهما بنقوش جبصية ومكونات خشبية. أما الأنماط الزخرفية فقد شملت مزيجا متناسقا من قطع زليج البلاط الذي تتوسطه نافورة رخامية، والجبص المنقوش المنمنم والشماسيات، وخشب ملون على شكل باقات ونباتات متعددة الألوان والأشكال.
معلمة تاريخية ومزار سياحي
تم تصنيف "قصر الباهية" كمعلمة تاريخية يلج إليها الزوار للتملي بفنون العمارة المغربية خصوصا النقش على الخشب. ويتوافد على "قصر الباهية" سياح من مختلف الجنسيات، ممن يجدون في عمارة القصر وحكاية تشييده زادا يغني زيارتهم للمدينة الحمراء.
وقال حسن بوقديد، وهو مرشد سياحي بمراكش، إن "قصر الباهية" بتميز عن باقي قصور مراكش التاريخية برونقه الخاص ومساحته الكبيرة ونقوشه وزخارفه، فضلا عن تناسق وانسجام بنايته مع الحدائق التي يضمها.
وشدد بوقديد على أن مما يعطي الحيوية لهذه المعلمة التاريخية، فضلا عن قيمتها كأثر مادي، حكاية الصدر الأعظم، في فترة بنائه، مشيرا إلى أن دوره كمرشد سياحي يتجلى أكثر في إغناء الفضاء وتمكين الزوار من شروحات حول حياة الصدر الأعظم وحكاية بناء القصر.
كما تحدث بوقديد عن الأسئلة الإضافية التي يطرحها السياح حول البناية، والتي تهم في جانب منها، حكاية التسمية التي تحيل على امرأة، حيث قال إن القصر يمكن المرشدين من تقريب السياح من الأدوار الأساسية التي لعبتها المرأة المغربية، بشكل عام، والمراكشية، بشكل خاص، في تاريخ البلد والمدينة، وهي الأدوار التي تؤكد عدد من الكتابات التاريخية، أنه كان لها تأثير في رسم السياسة العامة للدولة المغربية على أكثر من صعيد، ولم تكن تجعل من المرأة حبيسة غرف القصور، كما تنقل الحكايات العجائبية التي يبني عليها الغربيون مواقفهم وقناعاتهم عن الشرق.
وأشار بوقديد إلى أن السائح الغربي، على الخصوص، كثيراً ما يتفاجأ لما ينقل إليه عن هذه الأدوار المهمة التي لعبتها المرأة المغربية، في تاريخ المدينة، من خلال نماذج معروفة، انطلاقاً من الأدوار التي لعبتها زينب النفزاوية لحظة تأسيس مراكش وازدهار الدولة المغربية تحت حكم المرابطين، خلال القرن الحادي عشر.