عبد الله الساكني من الرباط: “جاك شيراك مات.. شيراك لم يمت"، بين هاتين الجملتين المتعارضتين، عاشت مواقع التواصل الإجتماعية اخيرا حالة من الاستنفار في الأوساط الفرنسية، التي تسرب إليها خبر وفاة الرئيس الأسبق للجمهورية الفرنسية، جاك شيراك، الذي نقل على وجه السرعة إلى إحدى مصحات باريس، قادما من مدينة تارودانت (جنوب المغرب)، بعد إصابته بوعكة صحية حادة.
ولا يزال الرئيس شيراك في المستشفى في باريس لإصابته بالتهاب رئوي حسب ما أعلن أحد أقاربه لوسائل إعلام فرنسية، منهيا بذلك شائعات وفاته، التي ساهمت رسالة قصيرة للوزيرة السابقة، كريستين بوتان، على حسابها في موقع "تويتر" كتبت فيها "وفاة شيراك"، في انتشار الإشاعة وتداولها على نطاق واسع.
ورغم مغادرته كرسي الرئاسة، ما زال شيراك، البالغ من العمر 83 عاما، يحتل مكانة خاصة عند الفرنسيين، الأمر الذي جعل الكثير منهم يصب جام غضبه على الوزيرة السابقة بوتان المعروفة بمواقفها المثيرة للجدل.
صديق الأسرة الملكية المغربية
ولأن المغرب ظل الوجهة المفضلة للرئيس الفرنسي الأسبق، وكان يستمتع بطبيعته وجوّه الدافئ قبل أن تلم به الوعكة الصحية، وتجبره على مغادرة تارودانت التي عشقها لتلقي العلاج، شغل موضوعه الشارع المغربي الذي يكن الكثير من الود لصديق المملكة الأول في فرنسا.
فعلاقة شيراك مع المغرب والأسرة الملكية بصفة خاصة تبقى من بين العلاقات الناجحة في تاريخ المملكة التي استمرت بعد وفاة العاهل الراحل الملك الحسن الثاني، وظلت مكانة شيراك محاطة بالتقدير والعناية اللازمة التي يكرم بها الملك محمد السادس ضيف المملكة وحليفها التاريخي في فرنسا.
وتعلق قلب الرئيس الفرنسي وزوجته برناديت في مدينة أكادير الساحلية( جنوب)، التي صار يفضل تمضية أوقاته فيها، بدل سواحل الجنوب الفرنسي، نظرا لجوها الدافئ المناسب لظروف الرئيس الصحية، بالإضافة إلى كرم الضيافة التي يحيطه بها الملك محمد السادس والتي بلغت حد منحه القصر الملكي في المدينة للإقامة فيه.
احترام الطبقة السياسية المغربية
مثلما هي الحال عند أعلى سلطة في البلاد، يحظى الرئيس الفرنسي الأسبق، بمكانة خاصة لدى الأحزاب والشخصيات السياسية المغربية، حيث يرى وزير الخارجية السابق، سعد الدين العثماني، أن شيراك رسم "خطا واضحا للسياسة الفرنسية في دعم الوحدة الوطنية والتربية لبلادنا"، موضحا أن الرجل كانت له مواقف "مشهودة في المنتظم الدولي في هذا المجال سواء في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة".
وأضاف العثماني في اتصال مع "إيلاف" أن الرئيس الفرنسي السابق، اكتسب سمعة دولية بسبب مواقفه التي تندرج في إطار ما سماه الخط "الديغولي"، الذي يحاول أن يتمايز ويبتعد عن الاندماج "في الخط الأميركي وسياساته"، مسجلا أن شيراك كان له مواقف "مختلفة عن مواقف الإدارة الأميركية في عدد من المواقف التي تهمنا نحن في المغرب أو عموم المسلمين".
وأشار العثماني وهو ايضا ، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، إلى أن الطبقة السياسية كلها تكن له الاحترام والتقدير، لأنه "خاض أدوارا مهمة بالنسبة للمغرب". واستطرد العثماني قائلا "للأسف الشديد ليس كل السياسيين الفرنسيين على هذا المستوى من النضج ورعاية الصداقة مع المغرب"، معتبرا أن متابعة المغاربة واهتمامهم بحالة شيراك الصحية "أمر طبيعي ومن الوفاء لصديق كبير للوطن".
أبهى عصر للعلاقات المغربية - الفرنسية
من جهته، أكد تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس في الرباط، أن العلاقات المغربية - الفرنسية عرفت "أبهى عصورها عندما كان جاك شيراك رئيسا للجمهورية"، مرجعا ذلك لعلاقة الصداقة "الوطيدة" التي كانت تربطه بالعاهل الراحل الملك الحسن الثاني، لافتا إلى أن شيراك كان له نوع من التواصل الفكري والثقافي مع الملك الحسن الثاني، الذي كان معروفا بقدرته "الفائقة على معرفة الحضارة الفرنسية ومعرفة سلوكها الدبلوماسي ، وحصل توافق فريد من نوعه بين الرجلين".
وسجل الحسيني، في تصريح لـ"إيلاف" أن علاقات شيراك على المستوى الدولي كانت تتميز بالكثير من الحصافة، خاصة العربية والإسلامية، نظرا لكون الملك الحسن الثاني كان رئيسا للجنة القدس ، واستضافة المغرب الكثير من المؤتمرات العربية، موضحا أن كل هذه العوامل تظافرت لتجعل من شيراك "أقرب الناس إلى النظام المغربي وأقربهم تفهما لحقيقة قضاياه بما فيها ملف الصحراء".
ولفت الحسيني الانتباه إلى أن شيراك رغم إعلانه مباشرة بعد توليه الحكم أن المغرب هو الحليف الأول لفرنسا في المنطقة، إلا أنه ظل محافظا على توازن علاقة بلاده ومصالحها الاقتصادية في الجزائر، بل، وصل به الأمر إلى "محاولة تقريب وجهات النظر بين النظامين المغربي والجزائري من أجل التوصل إلى حل عادل ومنصف في قضية الصحراء"، حسب الحسيني، الذي أكد أن محاولات شيراك باءت بالفشل.
كما أبرز الحسيني دور رئيس فرنسا في الدفاع عن المغرب لدى دول الاتحاد الأوروبي لمنحه المغرب مركزا أكثر تقدما، وشراكة أكثر تطورا عبر اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى النضال من أجل منح المغرب وضع "الشريك المتقدم"، وهو وضع أعطى للمغرب مكانة "أكبر من شريك وأقل من عضو".
علاقات خاصة
أما محمد الخليفة، القيادي البارز في حزب الاستقلال ، فينظر لرئيس فرنسا الأسبق على أنه شخصية مميزة في التاريخ الفرنسي، و"اعتبره صديقا كبيرا للمغرب"، معلنا في تصريح لـ"إيلاف" أنه تعرف إلى الرجل في أواسط سبعينيات القرن الماضي، عندما كان شيراك عمدة لمدينة باريس في أحد اللقاءات التي احتضنتها حول تدبير المدن.
وأفاد الخليفة، الذي تقلد عددا من المهام السياسية والحكومية في المغرب، أن أول لقاء لشيراك مع العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، كان في مدينة فاس على هامش مؤتمر رؤساء المدن الفرنكوفونية، حيث كشف أن الملك طلب أن يختلي بشيراك في لقاء خاص دام حوالى 45 دقيقة، خرج على أثره عمدة باريس فرحا مسرورا.
وزاد الخليفة قائلا "خمنت آنذاك، بأن صاحب الجلالة رأى في شيراك الرئيس المقبل للجمهورية الفرنسية"، مشددا على أن شيراك من المؤسسين للعلاقات الفرنسية - المغربية على أسس "الاحترام والمساندة والاعتراف بتاريخ المغرب الضارب في القدم"، مردفا أن هذه الشخصية استطاعت أن تجعل من صداقة المغرب بفرنسا "مثالا يحتذى"، على حد وصفه.
وعزا الخليفة سر احترام المغرب وملِكه لهذه الشخصية، سواء كانت في السلطة أو خارجها إلى "الجدية والوقوف بجانب الحق"، نافيا أن يكون شيراك وقف مع المغرب ضد الجزائر بل "كان يعرف الحقيقة كاملة وانحاز إلى الحق ووحدة الشعوب وكان مع المبادئ التي يؤمن بها وهي احترام حرية الشعوب ووحدتها الترابية"، يضيف الخليفة موضحا.
أما عبد الصمد بلكبير، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي (يساري)، فيرى أن مواقف شيراك الداعمة للمغرب، نابعة من انتمائه إلى مدرسة شارل ديغول السياسية، التي كانت ترفض "التبعية وتقاوم تغول النظام الرأسمالي على الشعوب والمجتمعات".
تلميذ ديغول الأخير
واعتبر بلكبير في اتصال مع "إيلاف"، أن شيراك، هو آخر تلاميذ هذه المدرسة السياسية التي نجحت في بناء تحالف مع الدول العربية، مؤكدا أن موقف الرئيس شيراك الراسخ تجاه الوحدة الوطنية للمغرب نابع من "تفهمه لمطلبنا المشروع وحقنا في استكمال وحدتنا الترابية".
وبين بلكبير أن علاقات المغرب مع فرنسا كانت سمنا على عسل في عهد شيراك، وأفاد بأنه في أولى سنوات حكم الملك محمد السادس، قال للملك في أحد اللقاءات "كنا ننصت لأفكار الحسن الثاني وانتقاداته ونستعين بها، وكذلك هو يستمع لنا ، واوصانا بأن لا نتدخل في المغرب إلا إذا مست مؤسسة الجيش".
وأبرز بلكبير أن مدرسة شارل ديغول في السياسة المبنية على المبادئ والأخلاق "أجهز عليها"، مشددا على ان شيراك أعطى مثالا للنجاح "الخارق في التدبير والحكامة" على مستوى المدن، عندما كان عمدة للعاصمة باريس، وهو ما "أهله للنجاح في إدارة فرنسا خلال ترؤسه لها"، حسب رأيه.