تعد صناعة الخزف من أهم ما يبرز أصالة وروعة المنتوج الصناعي التقليدي المغربي. ورغم أن لكل منطقة، من مناطق المغرب، مميزاتها وخصوصياتها الثقافية، التي قد تختلف، قليلاً أو كثيراً، عن بعضها، إلا أنها تلتقي كلها، في نهاية المطاف، في التقديم لموروث ثقافي متنوع في أشكاله وغني في مقوماته.
صناعة الخزف... أو سيرة الطين
كتب الباحث المغربي ابراهيم الحجري، تحت عنوان "صناعة الخزف .. سيرة الطين _ مدخل إثنوغرافي"، أن صناعة الخزف، الذي انتشر بمناطق شتى من البلاد وذاع صيته، لينتقل من مناطق إلى أخرى، إما في شكل مشتريات ومبيعات أو عن طريق رحيل الفنانين من مدينة إلى أخرى أو من بادية إلى أخرى، تبقى من أقدم ما يختزنه زاد الذاكرة المغربية التراثية.
ويرى الحجري أن البحوث التاريخية والإركيولوجية والتراثية قد أثبتت أن فنون الخزفيات والحرف الفخارية وجدت بالمغرب منذ أزمنة سحيقة، حيث تكاد ترجع بدايات إرهاصاتها الأولى إلى وجود الإنسان بهذه البقاع، وهو "معطى تؤكده المتاحف المغربية التي تتوفر على آثارات ومنمنمات ولقى فخارية صعب على الباحثين معرفة تاريخ ظهورها بالضبط، غير أن بعض الدراسات تؤكد أن صناعة الخزف الموروث عن الأندلس كان موجوداً ومستمراً بالمغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وخاصة بمدينة فاس التي استقبلت وفوداً من الأندلسيين، إثر النزاعات السياسية والدينية؛ وقد كانوا يتقنون، من جملة ما يتقنون، فن الخزف وحرفاً يدوية أخرى".
خزف آسفي... صناعة عريقة
نقرأ في ملصقات تعريفية، تقرب رواد "متحف دار السي اسعيد" بمراكش من هذا الموروث الصناعي التقليدي الوطني: "يعتبر الخزف فناً جميلاً ومثيراً، وعلماً قائماً بذاته، له نظرياته وتطبيقاته العلمية والفنية، كما أنه يعتبر صناعة عريقة ذات تقنية دقيقة وعالية لما أضافت عليها الحضارات التي مرت عبر العصور التاريخية القديمة والحديثة. فن نفعي.
في بداياته، استطاع أن يبرهن على رهافته وتأقلمه مع جميع نواحي الحياة المعاشة. مشع، جميل وجذاب، عكس الفخار البسيط ذو الطلاء الأسود، يقدم الخزف أشكالاً ونماذج مختلفة منقطعة النظير. يبقى من غير المؤكد تأريخ صناعة الخزف بالمغرب. بعض المصادر تتحدث عن القرن الثاني عشر، فيما يصعب إقامة علاقات جدلية بين اللقى الأثرية للعصور الوسطى وإبداعات القرن العشرين.
مدينة فاس الملتقى
بعض قطع الخزف المحفوظة بالمتاحف الأوروبية تعود للقرن السابع عشر، وبالتالي فهو التاريخ الذي يجب أن نتذكره للخزف المغربي الملمع. وقد شكلت مدينة فاس ملتقى فنون الصناعة والحرف التقليدية والانطلاقة الحقيقية نحو مدن أخرى أبدعت بالألوان والأشكال من خلال تعاونيات "الطلاية". يخدم الصانع الطين الفخار، بعجن الطين المنقى والمبلل، بعد التجفيف والشي ولإضفاء المزيد من الجمالية والرونق، يتم تغطية الواجهة الخارجية بطلاء زجاجي حيث يحول الصانع بعض المعادن إلى مواد سائلة ليرسم بها فوق الطلاء رسومات هندسية، نباتية وخطية بعد التسوية الأولى لتثبت بتسوية ثانية. يستعمل الصانع ألوانا زاهية/ البني (أكسيد الحديد والمنغنيز) والأخضر (أكسيد النحاس) والأصفر والأزرق (أكسيد الكوبالت)".
وتتشكل أغلب معروضات "متحف دار السي اسعيد"، من أواني خزفية تعود إلى مدينة أسفي، المشهورة بمصنوعاتها الخزفية. ويذهب عدد من الكتابات التاريخية إلى أن البحارة الفينيقيين كانوا أول من أدخل صناعة الخزف إلى المنطقة، قبل أن تحمل ساكنة المدينة المشعل، بتطوير المصنوعات الخزفية، بابتكارات مست الزخرفة والألوان والشكل، تبعاً لمتطلبات التطور.
ونظراً لرمزيتها، يوجد بمدينة أسفي "المتحف الوطني للخزف"، الذي تحتضنه القصبة المطلة على تل الفخارين، والتي يعود تاريخ تشييدها، حسب عدد من الكتابات التاريخية، إلى العهد الموحدي (1121 _ 1269).
خزف فاس... أصالة وروعة
غير بعيد عن "متحف دار السي اسعيد"، يقترح "متحف مراكش" معرضاً دائماً للخزف، تحت عنوان "نظرات حول الخزف القديم بمدينة فاس"، يضم مصنوعات خزفية تُبرز أصالة وروعة المنتوج الخزفي لمدينة فاس خلال فترات تاريخية تمتد ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وخلال الجولة، مع الأطباق الصغيرة والكبيرة والجرار والاقداح، وغيرها من الأشكال الخزفية، يبرز تألق وغنى خزف فاس عن غيرها من المدن المغربية. ويتضمن فضاء المعرض لمحات تعريفية وتاريخية تجعل الزائر يقترب مما يُعرض عليه أشكالاً خزفية وتطوراً تاريخياً، حيث تمثل الأطباق، مثلا، أشكالاً متنوعة مثل "الصحن" و"الطبسيل" و"المخفية" و"الكَصعة" و"الغطار" و"الطاجين"، وهي كلها من صنف أواني المطبخ، لكن استعمالاتها تختلف، فبعضها يستعمل للحاجيات اليومية، فيما يخصص البعض الآخر لبعض المناسبات كالحفلات والأعراس.
ومن هذه الأواني، يقدم المعرض "المخفية"، وهي ذات شكل مقعر مخروطي من حاشية مع قاعدة ملتوية إلى الداخل، و"الغطار"، وهو ذو شكل مقعر بجوانب داخلية منخفضة ومنفرجة بحاشية وقاعدة حلقية تحتوي على ثقب أو اثنين للتعليق، و"الطبسيل"، وهو ذو شكل مسطح مقعر شيئاً ما مع قاعدة دائرية. كما تعرض "الأقداح" أو "الزلافة"، وهي عبارة عن حويض صغير يستعمل غالباً للسوائل، وهو يصنف في ثلاثة أنواع مختلفة هي: "الزلافة" ذات الشكل نصف دائري، وتتميز بقصرها وسمكها الغليظ وقاعدتها الحلقية، و"الزلافة" ذات الشكل نصف دائري مع حافة مستقيمة وانعدام للقاعدة تقريباً، و"الزلافة" ذات الشكل نصف دائري، وتتكئ على قاعدة صغيرة مستقيمة تتميز بارتفاع أكبر. كما يضم المعرض الأطباق الكبيرة، التي تعتبر من أبرز وأجمل إبداعات فاس، وهي تستعمل خاصة في المناسبات، الشيء الذي ساهم في المحافظة على عدد مهم منها. وهي تصنف عموماً في نوعين أساسيين: الأطباق غير المقعرة والأطباق المقعرة؛ حيث يستعمل النوع الأول لتقديم أطباق الحفلات والولائم (المشوي والدجاج)، فيما يستعمل النوع الثاني لتقديم وجبات عجينية، نذكر منها "التْريد" و"الكسكس"، كما تستعمل، أيضاً، في تهيئة العجين. وتختلف تسميات الأطباق الكبيرة حسب أشكالها ووظائفها، حيث نجد "الطبسيل الكبير" و"الكَصعة" و"الجفنة" و"القصرية"، مثلاً. أما "الجرة"، أو "الخابية"، فهي من نوع الجرار التي استُلهمت من بعض أواني الزنجبير الصينية، وهي تصلح لصيانة المواد المختلفة، إذ أن كلمة "خابية" تتضمن فعل خبأ، أي حافظ وصان. أما في الوقت الراهن فقد صارت تستعمل في التزيين والديكور، والخزفيون يصنعون هذه الأواني عند الطلب، فقط، معتمدين في ذلك على إعادة إحياء النماذج التقليدية. ويتجلى تفرد "الخابية" في تعدد رسوماتها، حيث تتميز المنتجات القديمة بزخرفها المنسجم.
تاريخ الصناعة
وعلى الرغم من صعوبة رصد تاريخ نشأة صناعة الخزف بأول عاصمة عرفها المغرب، وبالعودة إلى الورقة التي وُضعت لترافق يوميات معرض "خزف فاس" في "متحف مراكش"، فإن بعض الفقرات القليلة والمتفرقة والمتضمنة في المصادر التاريخية، بالإضافة إلى ما تم العثور عليه في المواقع الأثرية، تثبت أن صناعة الخزف في فاس ترجع إلى أوائل العصر الوسيط.
واستناداً إلى مؤرخي الحقبة الموحدية، فقد كانت مدينة فاس تتوفر على أكثر من 180 محترفاً للخزفيات خارج أسوار المدينة. وقد ذكر ابن زرع، في "روض القرطاس في أخبار مدينة فاس" (1325 ميلادية)، أن بداية استعمال الزليج في البنايات يعود إلى أوائل الدولة المرينية. ومن جهته، يشير ابن خلدون (القرن الرابع عشر الميلادي) إلى أن هدايا السلطان المريني لحكام مصر كانت تتضمن الخزف باعتباره أثاثاً ثميناً. أما في القرن الخامس عشر فقد ذكر حسن الوزان، خلال وصفه لمدينة فاس، أن صناعة الخزف كانت توجد بنفس المكان الذي توجد به اليوم، أي "باب الفتوح". ومن المعروف أن القرن الخامس عشر، الذي تحدث عنه حسن الوزان، شهد تأثيرات ثقافية مهمة بفعل استقرار عدد كبير من اللاجئين الأندلسيين بفاس، من جهة، ووجود البرتغاليين والإسبان ببعض مدن الساحل المغربي، من جهة ثانية.
ويبدو صعباً رسم علاقة بين ما كشفت عنه الحفريات في المواقع الأثرية وخزفيات القرن السابع عشر، مع الدولة العلوية، ليبقى افتراض أن الخزف المختوم قد أزيح لكي يحل محلة الخزف المغطى بطلاء أبيض مصبوغ. وقد استمرت صناعة هذا النوع من الخزف في مدينة فاس حتى عصرنا الحالي ، وكانت وراء نشأة خزف آسفي، الذي سيتميز فيما بعد بالتجديد على مستوى الأشكال والزخارف والألوان.