سعدت غاية السعادة بالتكريم الملكي الذي حظي به الصحافي المقاوم، السجين، المنفي، زعيم المعارضة، ثم الوزير الأول المغربي الأسبق، الزعيم عبدالرحمن اليوسفي، من محمد السادس خليفة الحسن الثاني، بإطلاق اسمه على احد الشوارع الرئيسة في طنجة مسقط رأسه (من مواليد 8 مارس 1924)، وهو تكريم يستحقه من ملك يعرف ويصنع خفايا، وألوان، وتركيبة اللوحة المغربية ذات الرسم السهل الممتنع.
فـ "الاستاذ"، كما يحب أن يسميه كثيرون في المغرب، ويفضّل عارفو قيمته، وعلى الأخص أنصاره من مناضلي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ذي التاريخ الطويل في المعارضة، هو قيمة دولية ذات بعد نضالي سياسي، وفكري، وأخلاقي واسع الأرجاء، فهو عضو اصيل في الحركة الاشتراكية الدولية، التي لا يعجبني فيها إلا عدد محدود من رموزها المنتجة، مثل هلموت شميدت في ألمانيا، وكليمنت اتللي في بريطانيا، وفرانسوا ميتران في فرنسا، و"الاستاذ" في المغرب. اما البقية وخاصة في شرقنا العزيز على عين الشمس الحارقة، فهم لا يترجمون الاشتراكية التي رسمها آباؤها إلا كما لوحة سريالية ملقاة على قارعة الطريق.
مؤلم أن ما يسمى بـ "العالم العربي" لا يرى أو لا يتعرف على شخصيات ذات بعد انساني حقيقي مثل عبد الرحمن اليوسفي، ربما لانه مشغول بصور رموزه المشوهة لكل فتراته التاريخية ماضيًا، حاضرًا، ومستقبلاً.
يحتل السي عبد الرحمن مكانة خاصة في قلوب المغاربة، وقدرًا مميزًا من التاريخ الحديث للمغرب، وقد لخصت ذلك في مقدمة هذا المقال ذاكرًا ألقابه العديدة، لكن اهم فترة ، كما أزعم، تبقى هي حينما حلت الطمأنينة، والسكينة بين المعارضة والملكية المغربية، بعد ذخيرة حيّة من الصراع والدماء والدموع والسجون والمنافي، وتوج ذلك كله بأول خطوة تاريخية في منطقتنا العائمة بين محيطات الدكتاتورية والاوتوقراطية، والظلامية الدينية. عندما استدعى الملك الحسن الثاني، خصمه حزب الاتحاد الاشتراكي ليشكل أول حكومة يرأسها سجين سابق ومنفيّ سابق طالبت النيابة العامة الحكم عليه بالإعدام. وقد تميزت تلك الحكومة بانفتاحها ومساهمتها الكبيرة في تجديد المشهد السياسي المغربي، وتحولاته نحو الإصلاح والديمقراطية والشفافية.
لقد كان لي شرف مرافقة هذه الحكومة منذ الشروع في توليدها مرورًا بعمرها البالغ خمس سنوات حتى انتهاء ولايتها، وعلق بذاكرتي تلك العلاقة الودية الناعمة التي كانت تربط بين الملك الراحل الحسن الثاني، مجدد المغرب ومؤسس نهضته الحديثة، ورئيس وزرائه، المعارض السابق. وقد حظيت بحضور اجتماع ترأسه جلالته، وكنت جالسًا إلى جانب السي عبد الرحمن في القصر الملكي بمراكش بعد اجتماع لمجلس الوزراء المغربي، وناقشنا في ذلك الإجتماع الخطوط العريضة لمشروع إصلاح الوضع الإعلامي المغربي الذي كلفني جلالته بإعداده.
ورغم أهمية الموقف وجدية الطرح إلا أن حاستي الصحافية انشغلت بكل حركة أو لفتة بين الرجلين الكبيرين، ولمست عن قرب حالة الصفاء والود المقيم والاحترام العميق بين الزعيمين، أكمله الملك محمد السادس وهو يخف إلى طنجة مع رفيق والده مدشنا شارعًا بإسمه.
حالة أخرى عشتها حين مرض السي عبدالرحمن، إذ سارع الملك الحسن الثاني ليزوره في المستشفى. فكان لقاء جمع بامتياز الروحية المغربية الجذابة، ذات الخلق الرفيع في التعامل مع الاطياف التي في النهاية يضمها حب الوطن الواحد.
يا له من تاريخ... ويا لها من شخصيات.