: آخر تحديث

سوريا الجديدة: أي اتجاه؟

7
7
7

وسط تقاطر الوفود الاقليمية والدولية إلى سوريا للقاء أحمد الشرع القائد العام للإدارة الجديدة في البلاد، وعلى خلفية ترحيب غير مسبوق بوجود إدارة غير مؤسسية أو بالأحرى ذات خلفية جهادية في دولة ذات ثقل استراتيجي اقليمي معتبر مثل سوريا، يحلو للكثيرين القول بأن مايحدث في سوريا يؤسس لنموذج جديد في الحكم والنظرة للإسلاميين وجماعاتهم وتنظيماتهم، ويزعم البعض أن ما جاؤوا إلى دمشق من إدلب وغيرها هم يمثلون "الجل الثالث" من الظاهرة الجهادية التي تتسم ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ بالانفتاح والاعتدال والقدرة على التعايش وقبول الآخر.

بالفعل وللموضوعية فإن أحمد الشرع لم يظهر حتى الآن أي وجهات نظر تثير قلق الأطراف الاقليمية والدولية، ولا الطوائف العرقية والدينية السورية، بل يتحدث عن سوريا جامعة لكل السوريين، كما نفى أنه يريد تحويل سوريا إلى أفغانستان أخرى مشيراً إلى اختلاف الثقافات والتقاليد وان أفغانستان مجتمع قبلي، وأن سوريا عقلية مختلفة، ولا أحد فيها يستطيع الغاء الآخر، ويتحدث عن عقد اجتماعي شامل يحفظ للجميع الأمن المستدام، مؤكداً إيمانه بتعليم النساء، ومترجماً حديثه بإسناد مناصب حيوية، مثل محافظ المصرف المركزي، لكوادر نسائية سورية.

إلى هنا والأمور لا تحمل ما يثير القلق، ولكن هذا كله لا ينفي أهمية التساؤل عن كيفية الوصول إلى هذه الصيغة المثالية وربما الحالمة لبناء مستقبل سوريا، فالتجارب جميعها تشير إلى عمق العراقيل والصعوبات التي تواجه المراحل الانتقالية للحكم لاسيما إذا كان بعد حقبة طويلة من الاستبداد والديكتاتورية وغياب القانون، بكل ما يخلفه ذلك من توترات عرقية وطائفية تحتاج إلى جهود تشريعية وقانونية ممتدة لمعالجتها واستئصال جذروها وإحداث قطيعة نهائية مع الماضي.

البعض يرى أن إشاعة أجواء التعايش وتقنينها في سوريا يمكن أن يستند إلى دستور جديد يضمن التعايش والتعددية ويحترم حقوق جميع الطوائف في البلاد، فيما يرى آخرون أن شكل نظام الحكم يمكن أن يكون أكثر فاعلية لجهة التنفيذ الفعلي، بمعنى اختيار نظام حكم فيدرالي، ولكن ذلك قد يكون الخطوة الأولى نحو فتح بوابة تقسيم البلاد ولاسيما في ظل وجود إشكاليات تتعلق بالسيادة مع دول جوار أخرى، ووجود مشروعات استقلالية جاهزة للتنفيذ.

في مجمل الأحوال، من الصعب استشراف مسارات المستقبل السوري في ظل ضبابية وضع الفصائل المسلحة، ناهيك عن مصير أسلحة الجيش السوري وعناصره، باعتبار أن ضمان الاستقرار الأمني في هذه الحالة هو المدخل الحتمي للمضي نحو المستقبل، وإلا فإن أي عملية سياسية ستبقى مهددة طالما ظل السلاح بيد عناصر خارج سلطة الدولة، ناهيك عن صعوبة أحداث أي تقدم في الملف الأكثر الحاحاً للشعب السوري، وهو الملف الاقتصادي، من دون ضمان الأمن والاستقرار وتوفير المناخ الجاذب للاستثمارات الخارجية.

بلا أن مستقبل سوريا ليس مرهونا بسلوك الإدارة الجديدة وممارساتها على أرض الواقع فقط بل أيضاً بمواقف الدول الاقليمية والدولية، فسوريا ظلت طويلاً بعيداً عن الحاضنة العربية لأسباب معروفة للجميع، وتحولت في بعض الأوقات إلى شوكة ايرانية في الخاصرة العربية بسبب ارتباطها بمشروع اقليمي معاد للمصالح العربية، وإذا كان تباين المواقف العربية في السابق قد حال دون بناء موقف عربي مشترك قادر على استعادة سوريا، فإن من المنطقي القول بأن الظروف الراهنة يمكن أن توفر فرصة ليس فقط لتصحيح مسار سوريا ولكن أيضاً لوقف المتاعب التي كانت جزءاً منها بشكل مباشر أو غير مباشر.

بلاشك أيضاً أن نهج أحمد الشرع وماضيه الأيديولوجي والفكري كسلفي جهادي لم يتغير جذرياً، والقول بذلك هو نوع من المبالغة العاطفية غير الواقعية بالمرة، وبالتالي على العرب تفادي تكرار الأخطاء وعدم ترك سوريا تقع هذه المرة بين يدي قوة اقليمية جديدة لتحل محل إيران، التي كانت تهيمن تماماً على القرار السوري خلال فترة حكم الأسد.

الإشكالية التي لا ينبغي تجاهله أنه لا يمكن استبدال ديكتاتورية بعثية بدكتاتورية دينية، فالشرع قد يبدو نسخة مستنيرة وذكية بدرجة تفوق الحكم الديني التقليدي الذي حاولت بعض التنظيمات والجماعات تطبيقه في دول أخرى، ولكن هذا لا يعني أنه سيقبل بالصيغ الديمقراطية المدنية الحديثة، وفي سعيه للحصول على شرعية دولية يقدم الكثير من الوعود والعطايا التي يبدو بعضها غير قابل للتطبيق في الأجل المنظور، وهنا يكمن دور العرب الذين تتفاوت مواقفهم حتى الآن تجاه مايحدث في سوريا من تطورات متسارعة، وهنا لابد من التنويه إلى الدور السعودي السريع والفاعل تجاه هذا الواقع الجديد، فالدبلوماسية السعودية انخرطت بسرعة لافتة سياسياً واقتصادياً وانسانياً بل وطاقويا في سوريا الجديدة، وعوضت غياب أطراف عربية أخرى فاعلة عن المشهد السوري، والمسألة بالنسبة للمملكة العربية السعودية هنا لا تقتصر على استعادة سوريا ـ الدولة والشعب ـ للحاضنة العربية، ولا حتى تقويض أذرع منافس اقليمي في إطار سياسي وليس تصادمي، ولكنه تتعلق بدور المملكة العربية السعودية الجديد كقوة اقليمية دولية قادرة على توجيه دفة المعادلات والتحالفات بما يتوافق مع مصالحها ويعكس ثقلها الاستراتيجي، كما تعكس قدرتها على المناورة والتعامل مع مختلف الأطياف والأطراف المؤثرة إقليمياً جتى وإن جاءت من ماض مغاير للتوجهات الاستراتيجية السعودية الراهنة، لسبب بسيط هو أن السعودية الجديدة تقدم نفسها نموذجاً للتغيير وتأخذ زمام المبادرة في ذلك من دون قلق حتى وإن كان الطرف الآخر سلفياً جهادياً، وكأن الأمر يتعلق بأن السعودية باتت تمتلك من الثقة ما يدفعها لبذل الجهود من أجل التغيير في الخارج وليس في الداخل فقط.

في ضوء مايحدث يصعب فهم مستقبل سوريا من دون متابعة علاقات النظام الجديد مع الرياض، فالزيارة الأولى لقيادة الإدارة السورية الجديدة اتجهت للمملكة وقبولت بحفاوة سعودية لافتة، وهذا بحد ذاته ينطوي على دلالات نوعية مهمة للغاية، سواء لجهة توجهات هذه الإدارة ومدى تعلقها بنموذج التغيير والتحول السعودي، أو لرغبة المملكة العربية السعودية نفسها في تقديم اسهام جاد في بناء سوريا جديدة تصب في مصلحة الأمن والاستقرار الاقليمي بعيداً عن المشروعات التوسعية الاقليمية التي أضرت كثيراً بالمنطقة وشعوبها ودولها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف