تذكّر أنك فانٍ، ولكنك موجود. وأن الأشياء تتغير؛ تأتي وتذهب، تبرد وتسخن، وتمتلئ بالأخطاء الكبيرة. لكن هذه الحياة تحتاج - أيضًا - إلى فاعلٍ يُجيد فتْحَ أبواب الحياة، سواء أكُنا على جبال سويسرا، أو في عمق صحراء الجزيرة العربية. والحكمة تقول: لا تغلق الحياة بمفاتيح اليأس؛ لأنها قد تعود لك مرة أخرى.
سأختصر المعادلة؛ أنا... وأنت! كلانا من نفس الطين الذي خُلقنا منه، كلانا يبحث عن الحقيقة، ولكن بعقليْن مُختلفيْن. فالاختلاف نعمة دالة على رُقيِّ العقل، حيث الاختلافُ حياة، والتطابقُ غيبوبة. وكما يقول جلال الدين الرومي: "إن لم تجدني داخلك... لن تجدني أبدًا... فأنا معك منذ بدء التكوين".
هكذا قالوا: إنَّ مصيرَ الإنسان في بطاقةِ هويّته الشخصيّة: مكان الولادة وتاريخها. كلتاهما تثبت وجوده على الكون، وتختم عليه ختمًا دامغًا. يبدأ بالزمن، منذ الولادة الأولى لظهوره على مسرح الحياة، إذ إنّه يبدأ صياغةَ حياته واختياراته ورغباته وموقفه. وعادة ما يُنظر إلى لحظة الولادة باعتبارها إعلانًا عن حياة جديدة، تكون مصدر فرح وترحيب بمولود موعود بحياة سعيدة أو شقية، ضمن عمرٍ افتراضي محدود في الزمان وفي المكان.
سألت نفسي، وأنا أخرج للحياة - بعد النضوج -: من أنا؟، وما الذي يجعلني "أنا" في هذا المكان والزمان. لقد تهت بفلسفة الفيلسوف، وتبريرات العالم النفسي والاجتماعي، وبقدرية رجل الدين في تفسير الجسد والعقل والروح، والمعنى من الحياة. كنت قلقًا، وأنا أقرأ لهم تناقضاتهم وأمزجتهم خوفًا من أن يكون مستقري مستشفى (الصحة النفسية).
كنت في لحظات التأمل أُفلسف الحياةَ بطريقة مختزلة؛ خرجنا للحياة عُراة ومعنا قطعة قماش أبيض، وسنودعها -أيضًا-بنفس القماش. سرٌّ عجيب؛ صرخة البداية، وصرخة النهاية؛ الأولى: صوتها عالٍ، والثانية صامتة لا تسمع إلا صوت المودّعين.
لقد اكتشفت من التاريخ بأن مثل هذه الأسئلة ألقى ببعض الناس إلى هاوية الجنون، ومنهم من ارتقى لشاهقات السكون؛ ولذلك استبدل الكثير من الفلاسفة السؤال: ما معنى الحياة؟ إلى أسئلة حول "حياةٍ ذاتِ معنى"، لكن البحث عن معنى الحياة لن يختفيَ من تفكير البشر. فنحن مخلوقات تحتاج إلى معنى الحياة - بسخريتها وغموضها -، ومع ذلك فإن "لكل شيء معنى"؛ برأي أفلاطون وأرسطو.
حاولت بعد تذكُّرِ صدمة الولادة الأولى أن أُفلسف الحياة التي تجري عليها تصاريف الدهر، وخياراتي المُتاحة بين الرغبة والوسيلة؛ رغبة أختارها ووسيلة أتبعها، بين هالةٍ من المشاعر؛ عقل ونفس وضمير، تشغله روح لها بداية ونهاية، لتشكيل الذات وفقًا للرغبات والظروف.
وجدت بأن الإنسان يبقى صاحب القرار: هو مَن يخلق ذاتَه، فمن لا شيء كما كان، ويمكنه أن يصبح كلَّ شيء. لذلك قال بعض الفلاسفة: الإنسان لا يُولد مرةً واحدة؛ الولادة الأولى هي خروجه من رحم أمه، والثانية خروجه من رحم السذاجة والسطحية!، والثالثة خروجه من رحم المعتقدات والعادات التي تكبل عقله وإنسانيته!، والرابعة خروجه من رحم الأوهام والأهواء إلى فضاء أرحب وأوسع وأنقى!
إقرأ أيضاً: عقول علمية منزوعة الدسم
ومثلما قال الفيلسوف الإغريقي (هرقليطس) في عام خمسمائة قبل الميلاد: إن الوجود في تغيُّر دائم وتدفُّق مستمر، وأن كل شيء يتحول -باستمرار-ولا يستقر على حال. فالوجود كما النهر، ينساب باستمرار. فإذا وضعنا أقدامنا في النهر الجاري، لن تنساب عليها -قط-نفس المياه التي غمرتها في اللحظة السابقة؛ لذلك علينا العيش في الشتاء، دون أن نفكر باستحالة مجيء الصيف، ولقد سُئل حكيم: لماذا تقرأ كثيرًا، فقال: لأن حياةً واحدةً لا تكفي!
والإنسان الذي لا يصدر عن فلسفة صحيحة وواعية، يعيش غالبا بتعاسة وشقاء، ويقضي سني عمره دون أن يشعر بقيمة الحياة، لأن فلسفة الحياة تقوم على فكرة ماذا تريد أن تكون، وماذا تريد فعله؟ فاكتشفت بعد هذا العمر بأن الصحة تزن كل النعم الأخرى، لذلك قيل: شحاذ صحيح البدّن اسعد من ملك عليل!
تعلمت من الحياة حكمة جميلة؛ بان الوجود صراع، لا يجيده إلا شجاع، وكلما ارتفع الإنسان تكاتفت حوله الغيوم، وان الحياة مليئة بالحجارة فلا ينبغي التعثر بها، بل علينا جمعها لنبي بها سُلما نصعد به نحو القمة. وأن الأمس لن يعود، والحاضر لن يدوم، والمستقبل لا ندري فيه أين سنكون!
إقرأ أيضاً: هندسة مستقبلنا الرقمي
تعلمت من الألم، ورفضت أن أكون رفيقًا له، والحياة بلا فائدة موت سابق. مثلما الشقاء؛ كوكتيل من الألوان المتضادة، والأفكار المتناقضة، والصراع من أجل البقاء. وسر وجودنا يتخفَّى وراء هذه الألوان، ويلبس كلٌّ منَّا رداءه الخاص به حسب زمانه ومزاجه وعادات وتقاليد بيئته.
سُئل حكيم - ذات يوم - عن أغرب الأشياء في الكون؛ فقال: الإنسان، قالوا له: كيف؛ قال: الإنسان يضيع وقته بالتحسُّر على الماضي، ويريد أن يكبر عمره بسرعة، وعندما يكبر يفكر ببناء مستقبله، وعندما يشيب يتحسَّر على الماضي. فعلى حاله هذه لم يعش لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، وقد ضيَّع نفسَه حتى شاب!