قبل أيام، حمل البريد إليَّ رسالة من صديق بعيد يقيم في ما وراء بحار الصمت والضجر. هو ذا يقول من خلال تمزّقنا وانسحاقنا المجنون: لن تسقط يا صديقي.. ما زلت خصباً خيّراً، رغم هذه المرارة التي تطلُّ من بين سطوركَ وأحرفكَ. نحبّك يا صديقي.. نحبّك كيفما كنتَ، وفي أي شكل تصبح فيه، فدوامَتك الصحراوية لا تُبهجنا، رغم أنَّ البهجة حُلمنا أبداً. هو ذا تنين العصر يسحق إنسانيتنا، ويسلبنا أشياءنا الحلوة. أمسينا على الجرح، ولا ننزف دماً. فكيف نقول هذا الكلام؟ فليكن كما نشتهي نحن، لا كما يجب أن يُفرض علينا.
أجل يا صديقي البعيد، القريب.. شيء جديد طريف وفاجع هذا الشيء الذي نحياه. إنَّنا ننتقل من الحقل إلى الغرفة، من النور إلى الظلمة، من الحلم الجميل والمتألّم الباكي، رغم أنّه سحري، إلى الواقع الصلب.
يا صديقي! لقد انتهينا من التجارب، لنبدأ عهداً من تجارب الملموس والمكشوف، والواضح، واليابس.. نترك سراب الصفاء بأيدينا، لنشعر جيداً بأننا نمسك بواقع لا سراب فيه.
الحلم سفر مليء بالغبار والبخار والضباب واللاوصول. والوصول الذي لا يشبع مليء بالاستزادة والإعجاب والدهشة والتوجّع، ولكن غالباً لا خيبة فيه. خيبته نظرية خيالية، ليست خيبة مؤسسة في أرض ميتة، ليست خيبة مقفلة!
الواقع يا صديقي، هو الذي يسفر لنا عن وجهه، والحلم نحن الذين نرفضه. فلماذا.. لماذا لا نمزج بين الاثنين، فالحياة قصيرة، لنعشها بالامتلاء الذي نحب!
خيبة معرفتك الجديدة لوجه الحياة يا صديقي، تعرف من خلالها معنى الهلاك الحقيقي، وترى الوجه وجه الذعر، وتعاني شهوة الموت! الشهوة الصادقة للموت، لا شهوة التحايل المدلل الكذاب.
نترك الترف ـ مهما قيل إنَّ المال قتّال، فهو ترف نسبي، نترك الترف إلى القرف! وتصرخ بي من بئر عميقة راعية، بصوت تشوبه المرارة والفجيعة: (يجب أن تجد حبّاً فتجترح المعجزة يا صديقي. أعتقد أن الحب يقف لكل مآسينا بالمرصاد، فيه نعيد خلق أنفسنا. هناك أقول لك: أنَّ ذلك عمل ممكن وعظيم وبه تبدأ من جديد، كما بدأت أنا).
إننا أحياناً نصاب بخيبة أمل في الحب! لا بأس! خيبته ستكون معرفة الحياة أكثر، وسنظل على استعداد لنحب من جديد!
أنا لا أطلب لك المستحيل، لكني أعرف أنك ستخرج من تجربة الغربة والتشرّد، ممتلئاً بالتجارب. غنياً بالتعب والسأم واليأس والخبرة. نحن نبحث عن التجربة، ولو دفعنا حياتنا ثمناً لها.. أما وهبنا أنفسنا للحرف، للكلمة؟
هل أقسو عليك و"أصفّر" لك لحن الهرب والرفض والخوف؟ هل أنفش لك صدري؟ وقبور الحقيقة، هل أخلع أبوابها جميعاً لأردك إلينا؟ أنا لا أفسد عليك ظنّك الخائب، لأنني وكما تريدني لا أقرأ لك لأكون ناصحاً، أقرأ لك لأجد نفسي في سطورك، وأكتب إليك لتجد نفسك في سطوري وفي صدري!
وبعد، فقد أمضّني الشوق، واعتصرتني الغربة! إليكَ أقول، من بين الأسلاك الشائكة حول روحي، دائماً هناك من لا يجتازون إلّا الطريق المجهول... نحن هؤلاء!
أتدري لماذا؟ لأن لنا القدرة دائماً على الكشف، على التعرية. ولنا القدرة أيضاً على إزاحة الستارة عن مسرح الحياة بكل شجاعة وصلابة وخيبة!
أتعرف؟! أننا لا نبكي إلّا عندما نريد.. وكثيراً بل أبداً، نحن لا نريد بأن نبكي.. وهذا منتهى الرجولة! ولذا أراك اللحظة تبتسم ابتسامتك العريضة الفرحة، التي تعوّدنا عليها في بلادنا، أمّنا التي لم نعد نحن إليها، تركناها للغرباء الذين دمّروها وخرّبوها وسرقوا الكثير من محتوياتها وتراثها، وها هي اليوم صارت وحيدة تقاتل من أجل البقاء، وهي كذلك!.
كيف أخبرك عن الخرافة والدموع الوهمية التي تصطخب مسعورة من قوة تحجّرها؟ لم يكن لنا متكأ نستعين به على رد العاصفة، لأن خلفنا جبال الوهم والظلام والسواد.. نحن لسنا بدعة! وأنا أراك الآن يا صديقي البعيد، الغريب، فأحس الغربة غربتين!
نحن إذن حقيقة!؟
تلك الأرصفة التي بدأنا تشردنا عليها مذ كنا صغاراً.. أتذكر؟ إنّها أبداً موجودة في كل مدينة.. أنت الآن تحرّك ضمير الحجر.. لقد بلغت في غربتك كل ما يصبو إليه أديب فنان، وصحافي عاشق للورقة والقلم.. بلغت حدّة التجربة.
أنت تعانيها. تتجرّعها كؤوساً مرّة. ومع ذلك تقول للناس العاديين: (إنَّ الكأس حلو المذاق! نحن نكذب على الآخرين؛ لأننا نرغب أن تكون تجربتنا ملكنا وحدنا.. ونحن أكثر الناس نزفاً وألماً في الحياة، لأننا أكثر الناس إحساساً بالمأساة الفاجعة!).
إقرأ أيضاً: عن قهر اللاجئين ومعاناتهم وتذمرهم!
والمأساة أننا نبحث عن الحقيقة، والحقيقة وراءنا تبحث عنا، وتجلدنا بسياط من لهيب؟
إنّي أتململ يا صديقي! سحقتني الغربة، رغم أنّي تعودت عليها، واندمجت في صخبها وأجوائها العامرة، ولم يعد بخاطري تذكر بلدي الذي تركت، وظل النوم ثقيلاً على أهدابي!
رأسي مثقل بالنعاس، وقلبي يئنّ ويلهثُ، وعليَّ أن أبقى ثقيلاً في وجه العاصفة، واقفاً على قدمي!
صلّ من أجلي، يا صديقي، إذا كان هذا أضعف الإيمان... فإني أعيش أيام الغربة وسنواتها التي أخذت تهرول مسرعة يوماً بعد آخر، وسنة بعد أخرى، وما زلنا نستذكر بعض الماضي الذي لم يَعد يهمنا. نعم لم يعد يهمنا، وها نحن بالأحرى نسيناه بكل ما يعني بالنسبة لي ولك. إنه ماضٍ نخجل من العودة إليه وتذكر طقوسه، ولا شك تذكر كثيراً من أوجه المعاناة التي كانت تقف حجر عثرة في طريقنا، والغياب التام للخدمات التي من حق المواطن أن يحسها وأن يلمسها، ورغم مرور السنين ما زالت المشكلة هي هي، بل إنها أخذت في التطاول والاتساع! الأحوال كما كانت لم تتغير في بلادنا المنهوبة التي يعيش أهلها في دوامة، ولم يعد يشرّفنا أن تكون من بين اهتماماتنا!
إقرأ أيضاً: الغربة وشغف الكتابة
تلك البلاد التي سبق أن تركناها وهجرناها ورحلنا بعيداً، ها هي اليوم تعيش في أسوأ حالاتها. الحاجة والفقر ما يخيّم بأسه عليها في كل مكان، ولم يعد فيها طعم أو حتى رائحة، فالعيش صار فيها مستحيلاً. فكيف يتحمّل أهلها كل هذا الخراب والتعنيف والإهانة والفقر! بلا شك أنهم يقيمون فيها على مضض، ولم يعد باستطاعة أيٍ منهم أن يفكر بالهروب والهَجرة بعيداً عن أهله وأبنائه. اعتادوا على معيشتهم واستمروا عليها، وها هم يُلحّون على البقاء فيها، برغم ظروفهم المؤلمة التي لم تعد تسر لا عدو ولا صديق!
نعيش الأيام في غربتنا، فرحين بكل مؤسياتها أفضل ألف مرة من بلد يُعاني أهله من تشرد وجوع وفقر وضياع، والبحث في كل يوم عن المجهول، عن الأمس الذي نسيناه! نعم إنه الأمس الذي فقدنا فيه أعزّ ما نملك.