: آخر تحديث

أراضي العرب المحتلة: كيف تُباع الجغرافيا ويُغتال التاريخ؟

2
1
2

منذ أن رسم الاستعمار خرائط الوطن العربي، لم تهدأ الأرض يوماً، ولم تستقر الحدود التي صُنعت بمشرط المصالح الأجنبية. العالم العربي يعيش إرثاً مثقلاً بنزاعات حدودية مفتوحة كجرح يأبى الشفاء، بعضها احتلال مباشر، وبعضها نفوذ متغلغل تحت غطاء أمني أو سياسي. هذه الحدود، التي فرضت واقعاً هشاً، جعلت من كل شبر بمثابة فرصة لأطماع جديدة وصراعات لا تنتهي.

في العراق، بلد الحضارات، تفرض تركيا نفوذها العسكري على الحدود الشمالية، حيث تتغلغل داخل إقليم كردستان تحت ذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني. الأمر تجاوز العمليات المحدودة ليصل إلى إنشاء قواعد عسكرية تُكرس وجوداً تركياً شبه دائم، في مشهد يطرح تساؤلات عميقة عن السيادة العراقية التي باتت معلقة بين التجاذبات الإقليمية. إلى الشرق، تتمدد إيران على الأراضي الحدودية للعراق، عبر ميليشيات موالية لها ومصالح اقتصادية تغلغلت حتى أصبحت جزءاً من القرار السياسي في بغداد. العراق اليوم يقف بين مطرقة التوغل التركي وسندان السيطرة الإيرانية، وكلاهما يهدد بتقسيم خفي للأرض والقرار.

وهناك الأحواز، تلك الأرض العربية الواقعة على ضفاف الخليج، التي تعاني منذ عام 1925 من احتلال إيراني حولها إلى منطقة مغيبة عن الوعي العالمي. ورغم ثرواتها النفطية وموقعها الاستراتيجي، يواجه سكانها قمعاً مستمراً وهجمات على هويتهم العربية. الشعب الأحوازي يقاوم للحفاظ على لغته وتراثه، لكن صمت العالم يترك جرحهم مفتوحاً.

في سوريا، لا يزال الجولان المحتل شاهداً على أطماع إسرائيل المستمرة. منذ عام 1967 والجولان يُستنزف في يد الاحتلال الإسرائيلي، الذي ضمّه احتلالياً عام 1981 في تحدٍّ صارخ للقوانين الدولية. وفي الشمال، يقف لواء الإسكندرونة، الذي سلخته فرنسا عن سوريا لصالح تركيا عام 1939، ليُضاف إلى قائمة الأراضي العربية المغيبة عن الذاكرة بفعل واقع الحرب والانقسامات. الاحتلالات القديمة والجديدة ما زالت ترسم مستقبلاً مظلماً للسيادة السورية الممزقة.

لبنان هو الآخر يعاني من جرح الاحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، تلك الأراضي التي استولت عليها إسرائيل منذ حرب 1967، وما زالت ترفض الانسحاب رغم تأكيد لبنان سيادته عليها. مزارع شبعا ليست مجرد أرض، بل رمز للكرامة الوطنية التي تواصل إسرائيل سحقها دون رادع.

في فلسطين، الأرض التي تمثل قلب النزاعات الحدودية في العالم العربي، يُواصل الاحتلال الإسرائيلي مشروعه التوسعي، مُقسماً المدن والقرى بجدار الفصل والاستيطان، ومؤسساً لأكبر سلسلة جرائم إبادة فوق جغرافيا فلسطين التاريخية، ومستكملاً جرائمه بتهويد القدس وتدمير أي حلم بالدولة الفلسطينية. فلسطين، بكل جراحها، تُعيد تذكير العرب بأن الاحتلال لم ينتهِ بل يتجدد كل يوم.

في الخليج العربي، تبرز الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، التي تحتلها إيران منذ عام 1971. ورغم المناشدات الإماراتية والمطالبات القانونية والدبلوماسية العربية والدولية، ترفض إيران التفاوض أو إعادة الحقوق، مُصرة على فرض سيادتها بالقوة، وكأن القانون الدولي لا ينطبق عليها.

في المغرب العربي، لا تزال مدينتا سبتة ومليلية تحت الاحتلال الإسباني، إرث قديم للاستعمار الأوروبي الذي لم يُنهِ قبضته على شمال المغرب. وفي الجنوب، يبقى ملف الصحراء المغربية عالقاً بين حكمة المغرب وتعنت جبهة البوليساريو، قضية أعادت رسم خرائط الصراع في المغرب العربي وسط تدخلات إقليمية ودولية تُعقّد الوصول إلى حل.

إقرأ أيضاً: الليلة الأولى للطاغية في موسكو الباردة

ليبيا تواجه تحديات حدودية حاسمة، خاصة في الجنوب حيث تنشط الجماعات المسلحة القادمة من النيجر وتشاد والسودان. منطقة أوزو، التي كانت محور نزاع مع تشاد، تبقى ذكرى مؤلمة لتقسيم الاستعمار الأوروبي الذي فصل القبائل العربية والصحراوية عن بعضها البعض. ومع ضعف الدولة الليبية المركزية منذ سقوط نظام القذافي، أصبح الجنوب الليبي ساحة للنزاعات والجماعات الإرهابية، مما يعمّق أزمة السيادة الليبية ويعطل الحلول الاستشفائية.

جنوب السودان يمثل واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في تاريخ العرب الحديث. بعد انفصاله عن السودان عام 2011، أصبح نزاع الحدود بين الشمال والجنوب محل خلاف دائم، خاصة في المناطق الغنية بالنفط مثل أبيي. هذا النزاع، الذي تعمّقه التدخلات الدولية، جعل من جنوب السودان أرضاً مفتوحة للصراعات دون استقرار يُذكر، تاركاً إرثاً من الجروح في جسد السودان الكبير.

إقرأ أيضاً: النهاية المنطقية للإنسانية

زنجبار، الجوهرة العربية المفقودة في شرق إفريقيا، تُذكّرنا بسطوة الاستعمار وآثاره المستمرة. هذه الجزيرة، التي كانت تحت سيطرة العرب العُمانيين لقرون طويلة، فُقدت عام 1964 بعد انقلاب دموي قاد إلى ضمها لتنزانيا. رغم الهوية العربية والإسلامية لزنجبار، إلا أنها أصبحت خارج السيادة العربية، تاركة وراءها شعوراً بالفقد والخسارة التاريخية.

في المحيط الهندي، تواجه جزر القمر تحدياً آخر من إرث الاستعمار، حيث لا تزال جزيرة مايوت تحت السيطرة الفرنسية رغم استقلال جزر القمر عام 1975. فرنسا ترفض تسليم الجزيرة، التي تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدولة القمرية، وتُمارس نفوذها الاقتصادي والسياسي لترسيخ الاحتلال.

إقرأ أيضاً: الصحراء المغربية: الحتمية التاريخية والسياسية للوحدة الوطنية

الوضع الراهن لهذه النزاعات لا ينفصل عن مستقبل العالم العربي. استمرار هذه القضايا دون حلول حقيقية يعني مزيداً من التقسيم والتغلغل الخارجي، خاصة في ظل حالة الانقسام العربي وغياب استراتيجية موحدة. الصمت الدولي والخذلان الإقليمي يجعل من هذه الأراضي ملاذاً للأطماع الإقليمية والدولية التي تُعيد رسم الخرائط وفق مصالحها الخاصة.

التحدي اليوم يتجاوز المطالبات الدبلوماسية ليصل إلى إعادة بناء مشروع عربي موحد قادر على استعادة الحقوق المغتصبة. الخرائط العربية ملغومة، حيث تُختزل حدود السيادة، وتتحول الجغرافيا إلى ساحة نزاع دائمة. المستقبل لا يحمل وعوداً مشرقة ما لم تستيقظ الإرادة العربية وتعود قضية الحدود المحتلة إلى أولويات الدول والشعوب. ففي عالم يتغير بسرعة، ستبقى الأرض لمن يدافع عنها، وسيبقى الوطن رهينة الصمت ما لم تُكسر قيود الاستسلام.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف