طرأ تغيير لأيام معدودة جدًا على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بعد نجاته لحسن الحظ من محاولة اغتيال غادرة قام بها شاب مغامر أو قاتل غامض. أصبح ترامب لأيام قليلة متحفظًا ومتحرزًا. خلال حضوره مؤتمر الحزب الجمهوري في منتصف الشهر الماضي في ميلووكي، بدا في البداية منهكًا وبطيئًا، وإلى حد ما متأملاً. ربما توقع البعض أن يتحول ترامب إلى شخص آخر، نظرًا لنجاته من موت شبه محقق. فالإنسان عندما يدرك أنه كاد يموت فجأة ودون سابق إنذار، قد يغير بعضًا من مواقفه ليصبح شخصًا يُحتذى به في الهدوء والاستقامة والمسالمة.
غير أنَّ هذا الهدوء النسبي والتحفظ لم يدما طويلًا، وخاصة بعد انسحاب غريمه جو بايدن، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية، من الترشح في السباق الرئاسي في الحادي والعشرين من الشهر الماضي. منذ ذلك اليوم، يبدو ترامب متوترًا أكثر من السابق وأصبح بالفعل أقل اتزانًا. ومن المرجح أن ترامب لم يأخذ في الحسبان أبدًا انسحاب بايدن من السباق، مما أفسد حساباته تمامًا.
إنَّ مخاوف ترامب منذ شهر تقريبًا من خسارة محتملة في الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 لها أسباب عدة، ومنها:
نادراً ما شهدت الانتخابات الرئاسية مرشحين من الحزبين الكبيرين بدون شعبية كبيرة. سواء ترامب أو بايدن (قبل انسحابه)، كلاهما لم يكن محبوبًا لدى الناخبين. والآن أمام الناخبين، وخاصة أولئك الذين لم يحسموا أمرهم بعد، خيار جديد ومن جيل جديد، بل وحتى من الجنس الآخر، وهي كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالي.
المرشحة الجديدة حقوقية وتقلدت منصب وزيرة العدل في ولايتها. في أول كلمة لها أمام جمهورها قبل أسابيع قليلة، ذكرت هاريس أنها في السابق كانت المدعية العامة ورئيسة مكتب الادعاء العام في ولاية كاليفورنيا، وقالت: "لقد واجهت المجرمين من جميع الأنواع... مرتكبو الجرائم الجنسية الذين اعتدوا على النساء... النصابون الذين احتالوا على المستهلكين... المحتالون الذين خالفوا القانون لإثراء أنفسهم". وعندما قالت هاريس بالحرف الواحد: "لذا صدقوني، عندما أقول: أنا أعرف نوع دونالد ترامب"، غرق جمهورها في القاعة في عاصفة من الهتافات. وكانت هاريس محقة في كلامها، فترامب يواجه أمام القضاء الأميركي كل هذه التهم بالإضافة إلى جنح أخرى. كما أنه مدان أيضًا في قضية دفع أموال بطرق غير قانونية لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية قبيل انتخابات عام 2017.
مهما كانت الأمور في الماضي، ومهما كانت "دوافع" القضاء الأميركي (يدعي ترامب دائمًا أن كل القضايا الموجهة إليه ملاحقات سياسية لا أكثر)، سنرى في الأشهر الثلاثة القادمة سيدة حقوقية تقف أمام رجل مدان على الأقل في قضية جنائية، إن لم تأتِ إدانات جديدة بحقه.
المرشحة هاريس أصغر من ترامب بحوالى 19 عامًا، ما يعني أنه بخلاف بايدن، لن تُنتظر منها زلات الذاكرة. وترامب من جانبه لم يثبت أن ذاكرته دائمًا خالية من الإسقاطات والفراغات والزلات. ففي بداية هذا الشهر، عندما روى ترامب قصة "نجاته من الموت في مروحية"، أثارت زلة لسانه وتفكيره جدلاً حول الأشخاص الذين رافقوه في تلك الرحلة عام 2018.
صحيح أنَّ ترامب لديه قاعدة شعبية واسعة من الناخبين يؤيدونه بكل قناعة. وقد تمكن من تشويه كل مصدر للمعلومات باستثناء نفسه ومصادره المقربة، وبالتالي خلق أتباعًا له منذ سنوات، منفصلين عن "كل الحقائق" تقريبًا ويصدقون كل ما يقوله. لكن الأمر يختلف في صفوف الحزب الجمهوري، وخاصة لدى الشخصيات الوسطية والليبرالية. ففي مؤتمر ميلووكي المذكور أعلاه، حضر من 44 من المقربين لترامب أثناء ولايته الأولى فقط أربعة أشخاص لا غير. وحتى نائبه السابق مايكل ريتشارد بنس كان من بين الغائبين. كما أن جورج بوش، الرئيس الجمهوري الأميركي السابق، ينأى بنفسه عنه ولن يقدم له أي دعم انتخابي، كما لم يفعل في عام 2020 ولن يفعل في هذا العام أيضًا. لنتذكر أن بوش وصف خطاب ترامب خلال مراسم تنصيبه كرئيس للبلاد عام 2017 بأنه "weird shit" أي بمعنى "القرف الغريب".
إذن، فإنَّ ترامب يخوض هذه الانتخابات بدون دعم كبار الجمهوريين.
والأدهى من ذلك، أن بعض الجمهوريين، وإن كانوا أقلية، أبدوا استياءهم من ترامب وأساليبه الغريبة حقًا. بعضهم ينوي انتخاب هاريس بدلاً من "زميلهم" الجمهوري ترامب. على سبيل المثال: بيل ويلد، الحاكم السابق لولاية ماساتشوستس، وكريستين تود ويتمان، الحاكمة السابقة لولاية نيوجيرسي، بالإضافة إلى 16 عضوًا جمهوريًا سابقًا في الكونغرس، بما في ذلك آدم كينزينجر، والنواب جو والش من إلينوي وسوزان موليناري من نيويورك. هؤلاء يدعمون هاريس علنًا. بل حتى السكرتيرة الصحفية السابقة لترامب، ستيفاني غريشام، تدعم هاريس، إذ قالت في بيان لها: "قد لا أتفق مع نائبة الرئيس كامالا هاريس في كل شيء، لكنني أعلم أنها ستناضل من أجل حريتنا، وتحمي ديمقراطيتنا، وتمثل أميركا على المسرح العالمي بشرف وكرامة".
إقرأ أيضاً: اليمينية الشعبوية الصاعدة في الغرب
في الحقيقة، يعاني الحزب الجمهوري من الظاهرة الترامبية. وظهر جليًا أن الحزب يفتقر للشجاعة اللازمة لمواجهة هذا الشخص الأوتوقراطي. ويعتقد بعض المراقبين أن صعود ترامب لا يُفسر إلا بجبن غير طبيعي للمؤسسة الجمهورية، التي خضعت بالكامل لترامب، حتى أصبح الحزب وكأنه ملك شخصي له. فما رأيناه في مؤتمر ميلووكي كان حقًا بمثابة عرض للإخلاص والخذول طيلة أيام المؤتمر الأربعة. وهناك مشاهد كثيرة تظهر كيف كان ترامب يراقب المندوبين كمعلم أو كسيد لهم، وليس كرئيس حزب حضر هناك ليأخذ ويعطي. وعلى عكس ترامب، تحظى هاريس بالدعم الكامل والقوي من حزبها وشخصيات مرموقة في صفوف الديمقراطيين.
وهناك موضوع آخر "ربما" يقلق السيد ترامب، وهو الكفاءة البلاغية والأسلوبية لهاريس. لقد أثبتت أثناء استجوابها وزير العدل في حكومة ترامب، ويليام بار، أحد أذكى المحامين البارعين في واشنطن، قدرتها الجيدة في اللجنة القضائية في عام 2019 في تقويض أقوال ومواقف بار.
وعلى عكس هاريس، لم يشتهر ترامب أبدًا بأنه من أسياد البلاغة.
إقرأ أيضاً: حصانة ترامب وتهاون القضاء
من جهة أخرى، هناك مواضيع سياسية مهمة وربما مصيرية قد تُكشف حقائقها للناخبين، مما قد يغير المواقف. والعامل الحاسم في كثير من الأحيان في الفوز بالانتخابات هو كسب الوسط، أو بالأحرى كسب الناخب المفكر والمتأمل. لأن المواطن المفكر يستطيع التمييز جيدًا بين الدعاية والواقع.
من أقوى مواضيع ترامب الانتخابية مشكلة الهجرة إلى البلاد. يدعي ترامب دائمًا أنَّ الأعداد تزيد وتزيد وأن الديمقراطيين يتحملون المسؤولية. ولكن العكس هو الصحيح. بل هو بنفسه يتحمل قسطًا كبيرًا من المسؤولية، في وضع آليات للسيطرة على الوضع مع الديمقراطيين. لأن الجمهوريين في الكونغرس منعوا قانونًا يتضمن تدابير حدودية شاملة بناءً على طلب من ترامب نفسه - فهو لم يكن ولا يريد السماح للوضع بالتحسن لأسباب تتعلق بحملته الانتخابية، والجمهوريون في الكونغرس لم يكن لديهم مصلحة في نجاح هاريس، التي كانت مكلفة بالملف من قبل بايدن. لذلك اضطر بايدن إلى إصدار عدد من المراسيم للتقليل من حدة الوضع. ومنذ ذلك الحين، انخفضت أعداد المهاجرين نوعًا ما. لذا، إذا ما تمكنت الحكومة الأميركية من وضع حد لهذه المشكلة وأيضًا مشكلة الغلاء حتى موعد الانتخابات، سيصعب على ترامب إقناع الكثيرين بصحة تصريحاته المضللة بأنَّ خسارة ممكنة له في الانتخابات ستؤدي إلى "الفقر" و"المجاعة" في أميركا أو إلى نشوب "حرب عالمية ثالثة".