عِبارة عَميقة وذات دَلالة، قالها ضابط أميركي في اجتماع مَع العِراقيين، بَعد أسابيع مِن دُخولِهم العِراق، نقَلَها لي صَديق أثِق بكلامِه، يا حَبّذا لو تَحَلّى العراقيون بشَجاعة الاعتِراف أن فيها الكثير مِن الحَقيقة؛ أتذكرها دائِماً في ذِكرى احتلال الأميركان للعِراق ودُخولهم بغداد، التي تَمُر علينا سَنَوياً بين شَهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل)، حينَ أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بَدء عَملية ما أسماه "تَحرير العراق"، قاصِداً تَحرير العراقيين مِن صَدام، والتي ظَنّ بغَباء أنها ستكون كعَملية تَحرير الألمان مِن هتلر، لنكتشِف ويَكتشِف الأميركان بَعد فترة بأنّهُم قد حَرّروا صَدام مِن العِراقيين، وليسَ العَكس!
قد يَرى البَعض في هذا الكلام ظُلماً للعراقيين، وتَبرِأة لصَدام مِن جَرائِمه، وهؤلاء أغلبهم مُغَيّبين ومَأخوذين بعِزّة الإثم، ومُصِرّين على إنكار الواقِع، والاستِمرار بتَصديق بروبَغَندا شِعارات تَعظيم ومَسكَنة شَعبهم، التي رَوّجَتها أحزابه القومية والشيوعية ورَسّخَتها على مَدى عُقود. لكن مَن شَخّصَ حَقيقة المُجتمَع العِراقي مُبَكِّراً بثَمانينات وتسعينات القَرن الماضي دون فَلتَرة، أو صُدِمَ به بَعد 2003 على الطَبيعة، يَعلم بأنه ليسَ هُنالِك مِحنة أشَد مِن العَيش بَين العِراقيين كمُجتمَع، نَعَم كأفراد فيهم أناس طيّبون جداً، لكِنّهُم نُدرة وفي طَريقهم إلى الإنقِراض! أما صَدام فلا خِلاف على كونِه مُجرِم، لأنّه إفراز حَقيقي لمُجتمَعِه، يَحمِل كل عُقدِه النفسِيّة وتناقُضاتِه الفِكرية وتشَوّهاته القِيَمِيّة، ولهذا نجَحَ في حُكمِه لأكثَر مِن ثلاثة عُقود.
كان صَدام انعكاساً لشَعبه ومِرآة له، فإجرامه ورُعونته وجَشَعِه للسُلطة، هو انعكاس لمَفاهيم ومَشاعر مُتجَذِّرة في المُجتمَع العراقي وتركيبة أفراده، لم يَكُن صَدام مُتفرداً بها. فأغلب العراقيين كانوا سَيَفعلون ما فََعَل ورُبما أفظَع، لو تَوَفّرَت لهُم فُرصُه وإمكانياته. بدليل ما حَصَل بعد 2003، حين رأينا أصغَر موَظّف يَستقتِل على المَنصِب، وجَشَعه للمال لا حُدود له، ويُعَيّن وفق القَرابة بَدَل التخَصّص! كنا نتعَجّب كيف يُمكِن لشَخص أن يَفعَل ما فعَله صَدام مَع رفاقه وأصدقائه في مَجزرة قاعة الخُلد، لكن ما عِشناه مع العراقيين فيما بَعد أثبت لنا أن قِيَم الزَمالة والصَداقة لدى العراقيين، إلا ما نَدَر، سَطحية ولا تصمُد أمام مَفاهيم أخرى كالطائفية والعُنصرية! ولا أظن أن هناك عِراقياً بمَحَل صَدام كان سَيَتوانى عَن فِعل ما فَعَله تجاه أبناء عُمومته وأزواج بَناته لو فَعلوا ما فَعَله حسين وصَدام كامل! أما الكويت فلا يوجَد عِراقي، إلا ما رَحِم رَبّي، لا يَطمَع بإبتلاعِها! فَرهود اليَهود، وقتل العائلة المالكة والتَمثيل بجُثثهم وإهداء أجزائها، وغيرَها مِن الفظائِع، لم يَفعلها صدام، بَل العراقي البَسيط الذي يَصِفونه بأبي الطيبة والغيرة، والعِراقي الشيوعي الذي يَدّعي الإنسانية، والمُتَديّن الذي يَدّعي التقوى!
تَصَوّر أن صَدام الذي قام بجَريمة الكويت، وعِزة الدوري الذي حَرّضَه عليها، اعتذَرا عَنها، واعتبراها خطأً تأريخياً وجَريمة، في حين أن حَوالى ثلثي العراقيين ما زالوا يَرونَها فِعلاً صائِباً يَحلُمون بتكراره، لأنهم يُعانون هَلوَسة أن الكويت جُزء مِن إرث أجدادهم! وتَخَيّل أن صَدام يَقول باجتِماع مُغلق مُوَثّق رَأياً حَول القضية الكردية لا يَزال إلى اللحظة مُتقدِّماً على أغلب العراقيين، بضِمنِهِم مَن يَحكُمون اليوم الذين كان الأكراد يَعتبرونَهُم حُلفاءهم ضِد صَدام! إذ قال بمَعرَض إجابَتِه على تعليقات رِفاقه حَول المَوقِف تِجاه القضِيّة الكُردية مِن قِبل العراق وتركيا وإيران: "نحنُ مُستَعِدّون لِبَحثِها إلى أبعَد الحُدود، حَتى لو أرادوا أن يُصبِحوا دَولة فليَكُن، فلا يُمكِن أن تُجبِر أحَداً على العَيش مَعك خِلافاً لِرَغبته". مُشيراً لما واجَهَه مِن تَحَدّيات لإقناع رفاقه للإعتِراف بالأكراد كشَعَب، ومَنحِهِم حُكماً ذاتياً. في حين أن أغلب العِراقيين، ومِنهم مَن يَدّعون التمَدّن والإيمان بحَق المَرء بتقرير مَصيره، قامَت قيامَتهُم وقيامة أجدادهُم الذين عارَضوا تشكيل دَولة العراق الحَديثة، التي ساهَم الأكراد بتأسيسها، لمُجَرّد قيامهم باستِفتاء غير مُلزِم حَول الاستقلال، ونَعَتوهُم بالإنفِصاليين والنِزِل، وطَعَنوا بوَطنيتهم ووَطنية مَن تَعاطَف مَعَهُم وإحتَرَم خَيارَهُم ولم يُصادِر رَأيَهُم! فمَن الأسوَء، صَدام أم هؤلاء؟
شَخص كان يَعتبِر العراقيين شَعباً عَظيماً، ويُرَدِّد هذه الجُملة على مَسامِعنا ليل نَهار، حَتى صَدّقها كثير مِن العراقيين، لأنه على الأغلب مؤمِن بها، فهو نَفسه كأغلب العِراقيين كان مُصاباً بداء العَظَمة، لذا سَعى لحٌكمِهم وتمَسّك به، وإن كان على جُثث رفاقه وأقرَب الناس له. هكذا شَخص لا بُد أنه كانت لدَيه طاقة تحَمّل غير عادية جَعَلته قادِراً على تحَمّل وحُكم شَعَب بمُجرد أن مُنِح له هامِش حُرية، إنفَلَت عِقال عَقله وضَميره، ففَرهَد دوائِره وقَتَل بَعضَه بَعضاً وباعَ بلادَه برُخص التُراب.
"جئنا لنُخَلّصكُم مِن صَدام، فخَلّصناه مِنكم" لم تكن مَقولة اعتبارية، بل تحَقّقت على أرض الواقِع. فحين أمسَك الأميركان بَصَدام الذي أرّقهُم لعُقود، تعامَلوا مَعه بحِرَفية بَعيداً عَن روح الإنتِقام، ولو كان العِراقيون هُم مَن أمسَكوا به لقَطّعوه إرباً وسَحلوا جُثّته ومَثّلوا بها، كما فعَلوا بالوَصي والباشا وقاسم. وفي الوَقت الذي أرادَ له الأميركان مُحاكمة قانونية، أرادَها العراقيون سَلق بَيض وصورية، فَساسة أحَد المُكوّنات أرادوا إعدامَه بأي شَكل، لذا لم يُعجبهم تعامُل بعض القُضاة مَعَه بحِرَفية، واستبدَلوهُم بمَن حَقّقوا لهُم غايَتهُم. وحين صَدَر قرار إعدامه سارَعوا لتنفيذه بطريقة استعراضِية هستيرية صَباح أوّل أيام العيدَ، بَعد أن رَوّجوا بأن الأميركان بالتعاون مَع بَعض الساسة كانوا يَسعَون لتهريبه!
العِراقيون لم يَرتاحوا بتَحريرهم مِن صَدام، لأنه لم يَكن وَحدَه المُشكِلة التي كانت تؤَرِّق راحَتهُم، بَل هو جُزء مِنها، لأنه جُزء مِن العِراقيين الذين هُم كشَعَب لُب المُشكِلة. فهُم لا يَسعون للراحة والفَرَح والحَياة والسَلام، بل يَبحَثون عَن المَشاكِل والحُروب والحُزن والمَوت، ِشعارهم "المَوت لنا عادة وكرامَتنا مِن الله الشَهادة"، ويَتَحَيّنون الفرصة لإحتلال هذه الدولة أو رَمي تلك في البَحَر، بَدَلاً مِن السَعي لحَياة مُرَفّهة كريمة. لِذا انتَخَبوا بَعد رَحيله مَن ضاعَفوا بؤسَهُم، وحَوّلوهُم لِمُرتزقة في مليشيات يَسوقها خامِنئي عِبر غِلمانه كقاسم سُليماني. بالتالي صَدام هو مَن ارتاح بتَخليصِه مِن العراقيين، سَواء بالمَوت أو قبلها في السِجن، فالمَوت لِمِثلِه بكُل الأحوال راحة أبَدِيّة، حَتى لو ذَهَب إلى جَهَنّم، فجَهَنّم رَب العالمين قَد تكون أهوَن مِن جَهَنّم العراقيين، وحَتى السِجن الذي كان له فيه حَديقة يَجلس فيها ليفطر ويَقرأ الجَريدة ويُدخِّن سيجاره الذي كان يَجلبُه له الأميركان بَعيداً عَن هَم وغَم العِراقيين، كان أرحَم له مِن حُكمِهم، وما كان ليَراه ولا حَتى في الحُلُم لو وَقَع بأيديهِم!
قد يُهاجِم البَعض المَقال، إذا قرَأه بسَطحِيّة، لأنه سَيَعتبره ترَحّماً على صَدام، رَغم ما فيه مِن نَقد له ولِعَهدِه، لكونِه يَنتقِدَهُم ويَنتقِد مُجتمعَهم ويُشَخِّص بَعضاً مِن أمراضه، ويُعَرّي مَن جائوا بَعدَه، الذين هُم كصَدّام أيضاً، أبناء وتربية هذا الشَعَب ويَحملون عُقد وأمراضَه بشَكل أكثر تجَذّراً وَوضوحاً مِن صَدام. لذا هُم أسوَأ مِنه بكل المقاييس، فيهم إجرامه وتَرَيّفه لكن بأضعاف، وزادوا عليها بطائِفيّتهم وعُنصُريّتهم التي لم تكن لديه، بالرَغم من أنّهُم يَرمونه بها، لكن نَحن مَن عِشنا عَصرَه، ولم نلمَسهُما فيه كما هي فيهم بشَكل صارِخ، وهُم لا يُنكرونَها. لذا قضوا على الحَد الأدنى مِن شَكل الدولة الذي كان في عَهدِه، لأنهُم لا يُؤمِنون بها كفِكرة، كما أن حُكم مُكوّنَهم الذي يَعلمون عُقدِه ويَعرفون كيف يُدغدِغونها ليَستَغفِلوه ويُسَيّروه كيفَما وأينما يُريدون، أسهَل مِن حُكم شَعَب مِن مُكوّنات مختلفة أو مُتنافرة. فيما حافَظ هو على هذا الحَد الأدنى مِن شَكل الدولة، ليسَ بالضَرورة حُباً بالعراق، بل لأنه أراد أن يَحكُم شَعباً مُتماسِكاً خَوفاً لا قناعة، ولو بالظاهِر ليَسهل التَحَكّم به.