لا تُظهر الساحة الفكرية السياسية الدولية اليوم قراءة دقيقة للتنافس الأميركي - الروسي وتأثيراته على العالم، وذلك بسبب دقيق يتمثل في حدة الاستقطاب السياسي، مع أن هذا التنافس مؤهل للتطور سلبياً بين أميركا وروسيا التي لا يوجد بينهما حدود جغرافية مباشرة، ما يسمح لهما دائما باستثمار مساحة جغرافية أخرى، ولذلك فإن التنافس الأميركي - الروسي دائما سيظل بحاجة إلى طرف ثالث ومساحة جغرافية مستقلة وهذه حقيقة تاريخية، فبعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك أمثلة حية لطرف ثالث يعكس قوة التناظر بين القوتين، كما حدث في كوبا أو أوكرانيا الآن، بالإضافة إلى وجود مساحات جغرافية مماثلة كمنطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
التنافس الأميركي - الروسي لا يمس الشعبين مباشرة حيث لا يوجد بينهما حدود مشتركة ولا يوجد صراع مسلح، وهنا نطرح السؤال حول عمق هذا التنافس ودورته وخطورته على العالم، وهل يمكن أن يتطور في اتجاه مقلق نحو المواجهة، من الطبيعي أن المواجهة بين هاتين القوتين دائما ستحتاج إلى طرف جغرافي ثالث أو رابع لكي تظهر، وغالبا ساحات المواجهة بين القوتين هي دائما ساحات متنوعة على شكل ساحات سياسية واقتصادية وعسكرية كما حدث في أفغانستان أو سورية.
تاريخيا وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي ونشوء نظرية القطب الواحد واستئثار أميركا بمعايير القيادة في العالم، ظهرت روسيا كبديل ووريث محتمل للاتحاد السوفيتي، ولكن الظهور الروسي ارتبط بالتاريخ السابق للقوة السوفيتية، ولم يكن لدى روسيا الرئيس (بوتين) الكثير من الاقتصاد أو الأيديولوجيا لترويجها عالميا، بينما كانت أميركا تقدم للعالم الحداثة والتقنية والاقتصاد، وكان من الطبيعي أن تظل أميركا هي القيادة الطبيعية للعالم، ولكن روسيا استطاعت أن تدفع بالنظام الدولي بأكمله نحو التفكير في نظرية القوة والسيادة، وأنها لا بد وأن تظل المعيار الأكثر أحقية في تعريف معايير النظام الدولي وأركانه.
عندما ظهرت قضية الطاقة خلال الأسبوع الماضي وقررت منظمة أوبك إعادة تعريف إنتاجها بتخفيض الإنتاج من أجل مصلحة السوق العالمية - وهذا ما تمارسه منذ إنشائها - لاحظ الجميع أن هذه الأزمة لم يعد بالإمكان إبعادها عن مساحات التنافس الروسي - الأميركي، وأصبح من الواضح أن هناك عملية متعمدة لتسييس منظمة أوبك وقراراتها وربطها بشكل مباشر بما يجري في أوكرانيا، لتجد هذه المنظمة نفسها أمام تحديات مختلفة وفي توقيت غاية في الصعوبة.
الرؤية المستقبلية لواقع التنافس الروسي - الأميركي تنبئ في الحقيقة عن دخول هذا التنافس إلى مرحلة معقدة ومقلقة، فأدوات التنافس أصبحت تمتد إلى مناطق بعيدة عن ساحة المعركة، فمنظمة أوبك التي ولدت في بداية ستينيات القرن الماضي لم تكن يوما من الأيام طرفا في نزاع سياسي كما هي الصورة اليوم، وقد كانت المنظمة عبر تاريخيها الملاذ الأخير للتهدئة والتوازن وعبر تاريخها تعلمت هذه المنظمة الدروس في الكيفية التي يمكن من خلالها المحافظة على التوازن الدولي.
دول منظمة أوبك يمكنها أن تدرك أن الارتباك الدولي في استخدام مفهوم السيادة والسلطة على النظام العالمي ومؤسساته وانعكاساته لا يمكنها أن تتجاوز بتأثيرها نحو دول المنظمة وسيادتها، الفرصة القائمة لدول المنظمة هي أن تثبت أن لديها الفرصة للتعبير عن وجهة نظرها وفق النظرية الواقعية في الكيفية المحتملة لقيادة العالم نحو الاستقرار وترويض التنافس وخاصة بين القوى النووية التي يمكنها أن تذهب بالعالم نحو حافة الهاوية.
دول المنظمة يمكنها الاستمرار وعدم التراجع عبر التأكيد بأنها منظمة تسعى إلى إحلال التوازن الاقتصادي الدولي، لأن حركة أسعار النفط سواء في اتجاه الهبوط أو الصعود ستكون الشرارة الأكثر تحفيزا للمواجهات بين القوى، ومحاولات المنظمة الجريئة التي شهدها العالم خلال الأيام الماضية يجب ألا تبعث إلى القلق أو تدفع نحو التراجع مهما كانت ردود الفعل السياسية مقلقة فأوبك تثبت تدريجيا أنها معقل للاستقرار الدولي.
الحقيقة السياسية التي يجب أن ننتظرها هي أن انعكاسات التنافس الأميركي - الروسي القائم حاليا لن تتوقف فقط عند قرارات منظمة أوبك سواء عند رفع الإنتاج أو خفضة، فالقضية الروسية - الأوكرانية تتعقد بشكل متوالية هندسية، والانشقاق داخل أوروبا أصبحت ملامحه أكثر وضوحاً، كما أن العقوبات التي فرضت على الدول المرتبطة بحرب روسيا وأوكرانيا، أصبحت تشبه طباعة العملة بلا غطاء، عقوبات مكثفة لكن قيمتها تضعف مع زيادتها، لهذا فإن فكرة السيادة الدولية ومحاولة توظيفها عبر قطب واحد لحل الصراعات وتوظيف هذه السيادة على شكل تحالفات مفترضة، كل هذا قد يمهد لمخاطرة دولية يمكنها أن تقود العالم إلى مواجهة غير متكافئة تقود في النهاية إلى نتائج سلبية.