: آخر تحديث

إهانة العقول بين فيينا وكاريش

57
56
52
مواضيع ذات صلة

الفصل بين التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبين الاتفاق الأميركي الإيراني على النووي في فيينا، يبدو منطقياً في الشكل، لأن الشرطين اللذين حددهما «حزب الله» للوسيط الأميركي، وهما إنجاز الترسيم قبل أيلول بحيث يتمكن لبنان من بدء إجراءات التنقيب والاستخراج للغاز، و»السماح» الأميركي لشركات التنقيب والاستخراج أن تنفذ التزاماتها لدورة التراخيص الأولى بمباشرة التنقيب في البلوك الرقم 9. وهما شرطان لا علاقة للنووي بهما.

لا أصحاب العقول «الكبيرة» ولا أصحاب العقول «الصغيرة» كما وصفهم الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بدوا مقتنعين بقوله إنه لو جاء الوسيط الأميركي آيموس هوكشتاين بجواب «يقدم للدولة اللبنانية ما تطالب به نحن ‏ذاهبون إلى الهدوء، وسواء وقع الإتفاق النووي أو لم يوقع، إذا لم يعطِ للدولة ‏اللبنانية ما تطالب به نحن ذاهبون إلى تصعيد، حتى لو حصل الإتفاق النووي».

يستند من يربطون الاتفاق على النووي بالترسيم، إلى سوابق كثيرة جعلت من التطورات العسكرية والسياسية المتعلقة بلبنان والمواجهات العسكرية للحزب مع إسرائيل على علاقة بخططها على المستوى الاستراتيجي. هم مقتنعون أن حرب العام 2006 وقعت بسبب التعقيدات التي كانت قائمة في حينها إزاء الضغوط الدولية على طهران بعد اكتشاف تقدم برنامجها النووي وبدء سلسلة العقوبات عليها التي تدحرجت وتحولت إلى عقوبات أممية. اعتمد «حرس الثورة» منذ حينها لبنان صندوق تبادل الرسائل مع الغرب إن حول التفاوض أو حول الضغوط التي تتعرض لها إيران. في 2006 بدأ الأمر بهذا المنحى وانتهى إلى النتيجة التي لو كان الحزب «يعلم» بأنها ستصل إلى هذا المستوى من الأضرار والدمار، لما قام باعتراف نصرالله نفسه، بخطف الجنود الإسرائيليين. القول بالفصل بين الترسيم وبين الملف النووي كما قال نصرالله، يقفز فوق حقيقة أن توأم الملف النووي كان على الدوام نفوذ إيران الإقليمي وموقعها الجيو السياسي في المنطقة، ومن ضمنه برنامج صواريخها الباليستية، لتعزيز هذا الموقع وتمكينها من التفوق على سائر دولها. وهي لطالما تشبثت بالفصل بين التفاهم معها على برنامجها النووي وبين تدخلاتها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي اللذين تعتبرهما من الخطوط الحمر في التفاوض مع دول الغرب.

منشأ التشدد لدى إيران في برنامجها النووي منذ البداية هو نمو «الشعور القومي والوطني المقاوم» للقيود على خيارها الاعتماد على الطاقة النووية، وانسحاب هذا الشعور على رفض القيود على اعتدادها بالنفس جراء إيقاظ الأحلام الأمبراطورية الإيرانية بالتوسع في المنطقة، الذي لا يتردد القادة الإيرانيون أن يذكّروا العرب واللبنانيين بطموحهم إليه حين يعددون العواصم العربية التي باتوا يسيطرون عليها من جهة، واعتقادهم بأن برنامجهم الصاروخي هو الخط الدفاعي الحاسم عن بلاد فارس الذي نشأ جراء حرب صدام حسين على بلادهم، والذي فرض على مؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل آية الله الخميني أن «يتجرع سم» القبول بوقف النار مع صدام في العام 1988، من جهة ثانية.

وفي التطورات اللاحقة في لبنان، لا سيما على الصعيد الداخلي، لم تشذ سياسة الإمساك بالقرار الرسمي عن قاعدة تثبيت أوراق النفوذ في الدول التي امتد أخطبوطها إليها بشتى الوسائل العسكرية والمالية والعقائدية والمذهبية، مستفيدة تارة من شعارات مقاومة الاستيطان الإسرائيلي والوحشية في التعامل مع الفلسطينيين، وأخرى من تراخي الولايات المتحدة مع توسعها بهدف إخضاع الدول العربية للحاجة الدائمة إلى مساعدة واشنطن العسكرية في وجه إيران، حتى لو اقتضى الأمر تسعير الصراع السني الشيعي.

ما علاقة ملف الترسيم بكل ذلك راهناً؟ حين أطلق الحزب تهديداته باستهداف منصة استخراج في «كاريش» وما بعد بعد «كاريش»، تحدث عن «المخاطرة المحسوبة». والحسابات هنا لا علاقة لها بإخراج اللبنانيين من الجوع والعوز، لإدراك الجميع بمن فيهم نصرالله أن إفادة لبنان من الغاز والنفط في البحر يحتاج إلى سنوات بينما لبنان يحتاج إلى إجراءات قبل استخراج النفط، تنتشله من الحفرة التي هو فيها، تلخص بالآتي: تغيير تركيبته السياسية التي ترهن اقتصاده ومجتمعه إلى الصراع الإقليمي الذي يشد «حزب الله» البلد إليه، فارضاً على سائر اللبنانيين، وعلى السلطة المركزية أن تتناغم معه فيه، كما حصل مع عهد العماد ميشال عون لست سنوات.

إذا صح الفصل بين النووي والترسيم بالمعنى المباشر، فإن الأصح أن سلوك الحزب يرهن البلد بنتائج النووي وملحقاته بما تتضمنه من تسويات لاحقة على الملفات الإقليمية ولبنان منها. وسواء حصل «الحدث المهم» كما وصفه نصرالله في حالتي إنجاز اتفاق فيينا أم لا، فإن الحزب معني بتثبيت نفوذ طهران الإقليمي، عبر مصادرة علنية لقرار الحرب في لبنان، بعد طول اصطفاف خلف موقف الدولة، وبالإيحاء بأن سلاحه تمكن من تحصيل الحقوق، ليبنى على الشيء مقتضاه في المرحلة المقبلة، أو بإثبات قدرة «حرس الثورة» على إيذاء أوروبا وأميركا بمنع استفادتها من الغاز الإسرائيلي الذي بات أولوية، إذا فشلت فيينا. «المخاطرة المحسوبة» في لبنان هي الوجه الآخر للابتزاز الإيراني لأوروبا وأميركا حيال بدائل الغاز الروسي، بالاعتماد على فائض القوة، الذي يجيز إهانة أصحاب العقول كبيرة كانت أم صغيرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.