رغم بعض الشواهد التي تصب باتجاه استئناف مفاوضات البرنامج النووي الايراني في فيينا، فإن الشواهد الأكثر دقة تؤكد أن المعضلة لا تكمن في انعقاد الجولة السابعة من المفاوضات التي توقفت منذ أشهر، فالأزمة الحقيقية تتمثل في نقاط عدة منها تباعد الموقفين الايراني والأمريكي، ثم انحسار مستوى الثقة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي يحذر منذ فترة من تقلص قدرة الوكالة على مراقبة البرنامج النووي الايراني، وتطرق أثناء زيارته مؤخرًا إلى واشنطن من أن اجراءات مراقبة الأنشطة النووية الايرانية لم تعد دقيقة، وقد طلب المسؤول الدولي لقاء وزير الخارجية الايراني الجديد حسين أمير عبد اللهيان ولكنه لم يحظ بعد بموافقة الملالي، الذين يتعمدون دفع الأمور حتى حافة الهاوية.
غروسي قال في تصريحات لصحيفة "فاينانشيال تايمز" خلال زيارته مؤخرًا لواشنطن: "لم أتمكن من التحدث إلى وزير خارجية إيران [الجديد]". أنا بحاجة إلى هذا الاتصال على المستوى السياسي. هذا أمر لا غنى عنه. بدونه (الاتصال) ، لا يمكننا أن نفهم بعضنا البعض"، وهذا الموقف بحد ذاته يقدم دليلًا قويًا على أن الملالي يتعمدون إبعاد الوكالة عن انشطتهم النووية لأطول فترة ممكنة، حتى أن عودتهم قد لا تفي بالغرض من الرقابة لأن فترة غيابهم ستخلط الأوراق وتجعل مفتشي الوكالة بحاجة إلى وقت طويل كي يستأنفوا تنفيذ معايير الرقابة على الأنشطة النووية الايرانية، مايعني أن الملالي يتعمدون البقاء في منتصف الطريق بحيث لا يقطعون علاقتهم بالوكالة تمامًا، ولا يمنحونها في الوقت ذاته الفرصة الكافية لأداء مهامها.
محصلة كل هذه المراوغات اختصرها غروسي نفسه حين قال أن وقت حصول إيران على قدرات نووية عسكرية يتقلص يومًا بعد آخر، وهذا الأمر بحد ذاته يضع مجلس محافظي الوكالة أمام مسؤوليته في التصدي للسلوك الايراني السلبي خلال اجتماع المجلس الربع سنوي المقرر في شهر نوفمبر المقبل، لاسيما أن الملالي يماطلون في استقبال المسؤول الأول عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمناقشة تنفيذ اجراءات الوكالة، بل أن هناك تقارير اعلامية إيرانية تتحدث عن امتناع طهران عن تحديد موعد جديد لزيارة غروسي بسبب ماتعتبره "دورًا مدمرًا" وذا دوافع سياسية لمدير عام الوكالة الدولية، الذي يراه الملالي "أحد العقبات الكبرى أمام استئناف محادثات فيينا النووية" رغم أنه لا يوجد أي علاقة واضحة بين اجراءات الرقابة التي تطبقها الوكالة من ناحية، وبين أجندة المحادثات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتزامات الملالي في الاتفاق النووي من ناحية ثانية!.
بموازاة التهرب الايراني من رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يمارس نظام الملالي مراوغات أخرى مع القوى الدولية بشأن موعد استئناف محادثات فيينا، التي تناقش إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران ومجموعة "5+1"، فالملالي يؤكدون للعواصم الأوروبية التي تتوسط لاستئناف المحادثات أنهم سيعودون "قريبًا"، ولا أحد يعرف المعنى الدقيق لكلمة "قريبًا" من منظور الايرانيين، فهم يرددونها منذ تولي إبراهيم رئيسي الحكم، حيث كان الحجة ـ وقتذاك ـ دراسة نتائج الجولات التفاوضية الست السابقة ثم اعداد سيناريو لمسار الجولة السابعة، وحتى الآن لم ينته الملالي من هذه الدراسة، واعتقد أنهم لن ينتهوا قريبًا ما لم يتوصلوا إلى استنتاج أو تقدير استراتيجي واضح بأن مصير النظام بات في خطر، وأن السيناريو البديل بات جاهزًا للتصدي لمماطلاتهم.
العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن تتحدث عن ضرورة عودة إيران إلى فيينا "في أقرب وقت ممكن"، وتبذل هذه العواصم جهودًا مكثفة لاستكشاف نوايا الملالي، حيث قام إنريكي مورا ، نائب الأمين العام للاتحاد الأوروبي للشؤون السياسية ، بزيارة إلى طهران مؤخرًا من أجل محاولة التعرف على نوايا الايرانيين فيما يتعلق بالعودة إلى فيينا، ومتى ستكون عودتهم في حال كانوا جادين في ذلك بالفعل، ولكن المؤكد أن محصلة هذه الجهود ليست مطمئنة في كل الأحوال.
المؤكد في كل ماسبق أن الملالي يمارسون ضغوطًا نفسية قوية على الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها العام من أجل تجنب طرح قرار يدين السلوك الايراني في الاجتماع القادم لمجلس محافظي الوكالة، ومن الضروري أن يدرك الجميع خطورة النهج الايراني القائم على ارهاب الجميع وحشرهم في زاوية ضيقة. والمراوحة بين "القريب" و"الأقرب" في الموقفين الايراني والغربي بشأن استئناف المفاوضات النووية لا يعبر عن معضلة الوقت في هذه الأزمة بقدر ما يعبر عن مصير غامض للتعامل مع الأنشطة النووية الايرانية.