: آخر تحديث

المكالمة الأخيرة مع محمود درويش

48
47
42

لقاءاتي بالراحل العزيز محمود درويش متعددة... فقد التقيت به في تونس، وفي باريس، وفي الرباط، وفي برلين، وفي ميونيخ... وكل لقاء معه تكون له نكهته الخاصة مُخلّفا ذكرى أو ذكريات لا تنْمحي أبدًا...
وآخر لقاء معه كان في تونس في أوائل شهر ديسمبر(كانون الأول) سنة2007.

وقتها جاء محمود درويش إلى تونس لتسلّم جائزة الابداع...وقبل قدومه، تحادثنا هاتفيًا، واتفقنا على أن نلتقي لنتحدث في قضايا لا تسمح المكالمات الهاتفية بالخوض فيها مُطوّلا...

وأذكر أن محمود درويش تسلّم الجائزة من الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في موكبٍ رسمي مهيب بقصر قرطاج حضرته عدة شخصيات سياسية وفلسطينية، ثم وزّع مبلغها على الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون في الجامعات التونسية.

فلما خفّت نشاطاته الرسمية، هتفت له، وكان آنذاك يقيم في فندق "أبو نواس" الواقع على جادة محمد الخامس، على مسافة قصيرة من جادة الحبيب بورقيبة، قلب العاصمة التونسية. 
بعد دردشة خفيفة، اتفقنا على أن نلتقي في الفندق صباح اليوم التالي على الساعة العاشرة...قبل أن تنتهي المكالمة قال لي محمود: رجاء...كنْ وحدك لأن الحديث مع جماعة أصبح يُتعبني...

في ذلك الوقت كنت أقيم في الحمّامات... عند وصولي إلى العاصمة، جلست لأشرب عصير برتقال في مقهى جميل يقع بجانب "المسرح البلدي" وإذا بصحافيّة شابة من منطقة الكاف المشهورة بجمال نسائها تربت على كتفي، فدعوتها للجلوس. فلما طلبت مني إن كان بإمكاني أن أساعدها على إجراء حوار مع محمود درويش، فكرت قليلاً ثم قلت لها: اسمعي يا عزيزتي...محمود درويش متعب الآن... وقد أجريت معه حوارات كثيرة، لكن إذا أردت أن تتعرفي عليه عن قرب فتعالي معي.

كنت واثقا من أن محمود درويش لن يتضايق من وجودها... فهي ليست "الجماعة" التي لا يرغب في حضورها معي، بل فتاة لها جمال النساء في قصائده البديعة...

في الطريق إلى الفندق، طلبت منها بإلحاح ألاّ تكثر من الأسئلة، وأن تكتفي بالاستماع لأنها ستحصل على ما يمكن أن يكون أفضل من إجراء حوار...

جاءنا محمود درويش إلى صالة الفندق الفسيحة أنيقا بشوشًا... سلّم علينا بحرارة من دون أن يبدي أيّ تضايق بوجود الصحافية الشابة... وبعد أن جلس، تأمل في وجهها لبضع لحظات، ثم قال باسما: "ما عليش...أظن أنها لن تكون مزعجة...أليس كذلك؟"...وضحكنا جميعا...
استمرت جلستنا معه ساعتين كاملتين...أخذت الصحافية الشابة له ولنا صورا كثيرة ...

وكان حديثي معه عن الشعر والشعراء ...وأذكر أنه أبدى اعجابا بالشاعر التونسي الراحل أولاد احمد قائلاً: هو موهوب... لكن تنقصه العناية بنفسه... كثير من الفوضى يمكن أن يضرّ به ويقتل موهبته"...

وعن التجديد في الشعر، كنا متفقين على أن كل جديد لا يمكن أن يولد إلاّ من رحم القديم. والشعراء الجدد مخطئون حين يظنون أنهم سيجددون الشعر العربي مُهملين قراءة الشعر القديم، ورافضين الاستفادة منه... وكل الشعراء المجددين في الغرب، وفي العالم بأسره، اكتسبوا معارف عميقة بتراثهم الشعري قبل أن يشرعوا في عملية التجديد...بودلير، ورامبو، وملارميه وغيرهم من شعراء فرنسا المجددين كانوا ملمين بشعر من سبقهم... وأيضا بالتراث الاغريقي والروماني... وكان مالارميه يقرأ باهتمام كبير شعراء القرون الوسطى، وشعراء التروبادور... وإذن لا يمكن أن تكون عملية التجديد مستندة إلى الفراغ والعدم... فإن كانت كذلك، فإنها ستكون عملية عقيمة، وميّتة في المهد...

بعد ذلك اللقاء، تواصلت مكالماتي الهاتفية مع محمود درويش...
والمكالمة الأخيرة كانت في أواسط شهر حزيران(يونيو)2008،أي قبل شهر وثلاثة أسابيع من رحيله...

كنت في بيتي في الحمامات... وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا لما رنّ الهاتف...
وكان محمود درويش على الخط...
استغربت الأمر لأن الوقت متأخر...والساعة في رام الله قاربت الساعة الواحدة صباحا...
هل حدث أمر جلل؟
إلاّ أن صاحب "لماذا تركت الحصان وحيدا" بادرني بالتحية والسؤال عن أحوالي، نازعًا عني المخاوف التي استبدت بي حالمًا رفعت السماعة...
ثم فجأة، سألني محمود درويش: هل أنت وحدك الآن؟
-نعم...
-وأين تلك الصحافية الجميلة التي قدمتها لي في فندق "أبو نواس"؟
-لا أدري... منذ أشهر طويلة لم أرها...
-أليست حبيبتك؟
-لا هي صديقة فقط لا غير...
-خسارة ...قال محمود بأسف شديد...
وهكذا انتهت تلك المكالمة الغريبة ...
في التاسع من شهر آب-أغسطس2008، دعيت للقاء أدبي في طنجة...

في الطريق إليها في سيارة الصديق المترجم مزوار الادريسي، وبرفقة الشاعر المغربي المهدي أخريف، والعراقي صاموئيل شمعون، تحدثنا كثيرا عن محمود درويش وعن العملية الجراحية التي كان يخضع لها في الولايات المتحدة الأميركية التي لم تمنحه التأشيرة إلاّ بصعوبة كبيرة. 
وأذكر أن مزوار الادريسي طمأننا قائلاً بإنه قرأ في جريدة "القدس" خبرًا يؤكد أن العملية الجراحية التي أُجريت له نجحت وأنه يتعافى شيئا فشيئا...
في قلب طنجة، توقفت سيارة مزوار عند ضوء أحمر...
رنّ هاتفه وبعد بضع كلمات شحب وجهه وتعطل لسانه...
ماذا حدث؟
مات محمود درويش...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات