: آخر تحديث

"ذات الشعر الطويل" للألماني هاينريش بلْ

39
45
22
مواضيع ذات صلة

يعتبر هاينريش بلْ، المولود في ضواحي مدينة كولونيا في عام 1917، أحد رموز الأدب الألماني في النصف الثاني من القرن العشرين.

في جلّ اعماله، اهتم بلْ بفواجع الحرب الكونية الثانية، وبالأزمات الحادة التي عرفتها بلاده خلال فترة الازدهار الاقتصادي. وقد نال جائزة نوبل للآداب في عام 1972، وتوفاه الله في عام 1985.

* * * * *

شيء مُدهش. خمس دقائق قبل مُداهمة الشرطة، تملّكَني هاجس بأن شيئا ما سوف يحدث، واستولى عليّ شعور بالفزع. نظرت حولي بحذر، وبعد ذلك توجّهتُ بخطى بطيئة نحو المحطة مُحَاذيا نهر "الرين". عندئذ رأيتهم يهجمون بقبعاتهم الحمراء، وبسياراتهم الصغيرة. وفي وقت قصير جدا كان كامل الحي السكني مُحَاصَرا. ثم شرعوا يُفتشون. حدث ذلك بسرعة لا تُصدّق. أما أنا فقد وقفت خارج الدائرة، وأشعلت سيجارة. كل ذلك حدث دونما ضجّة. أناس كثيرون تخلصوا من سجائرهم. وأنا قلت في نفسي: خسارة...ومن دون إرادة مني، قمت بعملية حسابية سريعة لكي أعرف كم من المال الذي هناك على الرصيف. وفي رمشة عين، امتلأت عربة السجن. حَشَرُوا فيها كل الذين تمّ القبض عليهم. كان فرانتز من بينهم. من بعيد أشار لي إشارة يائسة وكأنه أراد أن يقول لي :" يا لسوء الحظ"...التفت الشرطي، ونظر إليّ فانتهزت الفرصة لكي أهرب، لكن ببطء شديد...يا إلهي... لو قبضوا عليّ انا أيضا... 

لم تكن  لي أدنى رغبة في العودة إلى الجحر الذي أسكنه. لذا واصلت السير بتأن باتجاه المحطة. بطرف عكازي، أبعدتّ حصاة كانت في طريقي. كانت الشمس حارة. وثمة ريح خفيفة غضّة تهبّ على "الرين". وعندما وصلت، توجهت إلى حانة المحطة. أعطيت المائتي سيجارة إلى فريتز، ووضعت المال في جيبي. الآن تخلصت من كل شيء، ولم تتبقى سوى علبة واحدة للاستهلاك الخاص. بعد ذلك، وبرغم الازدحام الشديد،  تمكنت من أن أعثر على مقعد شاغر. طلبت صحن مرق  وخبزا. ومرة أخرى رأيت فريتز يشير إليّ. غير أنني لم أكن راغبا في أن اتعب نفسي من جديد. عندئذ أقبل نحوي بخطوات سريعة يتبعه عن قرب "مصباخ" الصغير الذي نسميه "العتّال"،  والاثنان كانا مضطربين ..."ألا تفهم؟" همس فريتز .بعدها ابتعد وهو يهزّ رأسه مغتاظا، تاركا المكان لمصباخ الصغير الذي كان يلهث. قال بصوت متقطع:" أنت لا بدّ أن تهرب الآن وبسرعة...لقد فتشوا غرفتك ووجدوا السلعة"...وكان يختنق وهو يقول ذلك...ربتّ على كتفه لكي أهدئ من روْعه، ودسست في جيبه عشرين ماركا. قلت له:" حسنا". عندئذ انصرف بسرعة. وفي تلك اللحظة بالذات تذكرت شيئا:"إسمعْ  يا هايني... هل يمكنك ان تخفي كتبي والمعطف بطريقة ما... سأعود بعد خمسة عشر يوما... هل تفهم؟ وكل ما تبقى يمكنك أن تحتفظ به لنفسك"...أشار برأسه موافقا...يمكنني أن أثق فيه... رجل أمين هايني... 

"يا للخسارة...ثمانية آلاف مارك طارت في الهواء... نحن لسنا في أمن اطلاقا"... 

نظرات مُرْتَابَة صُوّبت نحوي بينما كنت أجلس من جديد غير مُتَعَجّل، مُتَلَمّسا جيبي بشيء من اللامبالاة، ثم استسلمت للجلبة التي كانت تحاصرني من جميع النواحي. وانتبهت إلى أنه لا يمكنني أبدا ان أتمتع بتلك الوحدة الرائعة إلاّ في ذلك المكان، وسط الزحام، وفي زوبعة حانة المحطة.  

فجأة اكتشفت شيئا مّدهشا: نظراتي التي لم تكن تتوجه إلى شيء محدد، كانت رغما عني، تتجول في القاعة كلها، وتتردد قليلا حين تصل إلى نقطة معيّنة. وكانت تتوقف دائما عندها من دون رغبتي. وفي كل وقت، كانت حين تتطوف في القاعة، تتعلق بتلك النقطة ذاتها، وتظل مشدودة إليها قبل أن تنزلقَ بعيدا عنها. حدث ذلك كما لو أن أحدا جذبني من نوم عميق. أخيرا اضطررت أن أنظر إلى تلك النقطة. بعد طاولتين من طاولتي، كانت تجلس فتاة تلبس معطفا فاتح اللون، وتضع قبّعة صفراء  على شعرها الأسود. وكات تقرأ. في البداية، لم أر سوى جسدها المُكَوّم قليلا، وجزئا صغيرا من أنفها ومن يديها الرشيقتين الساكنتين. ورأيت أيضا ساقيها النظيفتين...ولست أدري كم من الوقت أمضيت وأنا أتأملها...أحيانا كنت  أستطيع أن أتبين دائرة وجهها الناعمة، خاصة عندما تقلب  الصفحة. وفجأة رفعت رأسها، ونظرت إليّ بعينيها الواسعتين الرماديتين...كانت نظرتها قاسية ولا مبالية...ثم من جديد عادت تقرأ الصحيفة... 

تلك النظرة القصيرة السريعة كانت كافية للإيقاع بي. ورغم أن قلبي كان يدقّ بعنف، فإني  ظللت أراقبها بصبر إلى أن انتهت من قراءة الصحيفة. ثم رأيتها تضع مرفقيها على الطاولة، وتأخذ كأس بيرة باتجاه فمها بحركة يأس غريب... 

أخيرا توصلت إلى رؤية وجهها كاملا... كانت شاحبة، شاحبة جدا... وكان فمها صغيرا، وشفتاها دقيقتين، وأنفها مستقيما ونبيلا. غير أن عينيها...عينيها الرماديتين كانتا حزينتين...وكانت خصلات شعرها السوداء تنزل حتى كتفيها...وقد خَطَرَ لي وأنا أتأملها وكأنها تصنع حجاب حداد كبيرا ... ولست أدري كم من الوقت امضيته وأنا اتأملها هكذا... عشرون دقيقة...ساعة أو أكثر...لست أدري...وعندما كانت تلامسُ وجهي  بنظرتها الحزينة، وكانت كآبتها تبدو وكأنها تكبر في داخلها، لم أستطع أن أتبيّنَ  في ملامحها لا قلقا ولا غضبا ولا أيّ تعبير من تلك التعابير التي ترتسم على وجوه الصبايا في مثل تلك الحالة. كآبة...كآبة فقط... ذاك ما كان يفصَحُ عنه وجهها...كانت كئيبة وخائفة...  

أنا واثق من أنني لم أكن أرغب في أن أخيفها أو أكدرها. إلاّ انني لم أكن قادرا على أن أكف عن النظر إليها... 

في النهاية نهضت بحركة مُبَاغتة...وضعت حقيبتها على كتفيها وخرجت مسرعة...التحقت بها...من دون أن تلتف ولو مرة واحدة، صعدت الدرجات، وتوجهت نحو الباب الصغير... كانت سجينة نظراتي، وحتى عندما كنت أشتري التذكرة، ظلت نظراتي تلاحقها. كانت قد ابتعدت عني مسافة مّا، الشيء الذي اضطرني إلى أن اتأبط عكازي لكي أتمكن من الركض لإدراكها. وقد كدت أفقدها في ذلك المعبر المعتم الذي لا بد من اجتيازه قبل بلوغ الأرصفة. وجدتها هناك مُسْتَندة إلى محرس مُهدّم. كانت تنظر إلى السكة بإمعان شديد، ولم تلتفت ولو مرة  واحدة. كان الليل يقترب بسرعة. وعدد كبير من المسافرين  يحملون حقائب على ظهروهم، وأكياسا وطرودا. وعلى الأرصفة حقائب  ضخمة أخرى  تنتظر. وكلهم-أعني المسافرين-كانوا قلقين وكئيبين ومُتضايقين، ينظرون مرتعشين باتجاه الناحية التي كانت تهبّ منها الريح. نصف دائرة كبيرة داكنة وهادئة...تلك هي السماء التي كنا نستطيع أن نراها من خلال حاجز المحطة المشبك... 

سرت على الرصيف وأنا أضلع. من حين لآخر ألقي نظرة لأتأكد من أن الفتاة لا تزال في المكان نفسه. وعندما كنت أتابع القاطرة بنظراتي وهي تدخل المحطة، صعدت الفتاة إلى إحدى العربات ، وكان القطار لا يزال يسير ثم اختفت في إحدى المقصورات. لدقائق لم أعد أراها وسط ذلك الزحام، ووسط كل أوائلك المسافرين الذين كانوا يتدافعون أمام الأبواب،  إلاّ أنني سرعان ما اكتشفت القبعة الصفراء في إحدى العربات الأخيرة. صعدت وجلست أمامها، وقريبا منها إلى حدّ أن ركبتينا كانتا تتلامسان. وعندما رفعت عينيها الحزينتين الهادئتين، كان حاجباها فقط مُقَطّبين، وفي ملامحها اكتشفت أنها تعرف أني لاحقتها خطوة خطوة. ثَبّتّ عليها نظراتي مرة أخرى حين تحرك القطار بينما كان الليل يهبط. ولم يكن باستطاعتي أن أتلفّظَ بكلمة واحدة. كانت الحقول مغمورة تماما بالظلام. وشيئا فشيئا بدأت القرى تتعتّم. كنت أحس بالبرد ينفذُ إلى عظامي، وكنت أسأل نفسي: ترى أين سأنام الليلة؟ وأين يمكنني أن أستريح. آه... لو أنني أستطيع فقط ان أخفي رأسي في شعرها الأسود...لا شيء غير ذلك أطلبه...تناولت سيجارة وأشعلتها. عندئذ ألقت على العلبة نظرة سريعة، لكنها ذات حدة غريبة. مددت  لها واحدة، وقلت لها بصوت أبح: تفضلي... أحسست إحساسا غريبا كما لو أن قلبي سيخرج من حنجرتي...ترددت الفتاة لحظة أو أقلّ من ذلك، وبرغم العتمة رأيت وجهها يحمرّ، ثم تناولت السيجارة وأخذتْ  تدخن بلذة متناهية: 

-أنت رجل طيّب ...قالت... 

كان صوتها أجشّ حزينا. وعندما سمعنا المراقب يدخل المقصورة المجاورة استندنا ، وكأننا اتفقنا على ذلك، إلى مسْند المقعد، وتظاهرنا بالنوم، كل واحد في زاويته.، إلاّ أني  لمحتها من بين جفني وهي تضحك. ورأيت المراقب وهو يضيئ المقصورة ويتأمل التذاكر ، ثم فجأة صوّبَ ضوء مصباحه الكهربائي باتجاهي، وفهمت من خلال رعشات الضوء أنه متردد. بعدها صَوّبَ الضوء باتجاهها ...آه...كم كانت شاحبة... وكم كان حزينا لون جبهتها... عندئذ أمسكت امرأة ضخمة وثرثارة كانت  تجلس بجانبي،   بكمّ المراقب، وهمست بشيء في أذنيه...استطعت رغم ذلك أن أتبين الكلمات  التالية :"مسافران من دون تذاكر...سجائر...سوق سوداء...  

في تلك اللحظة، سدّدَ لي المراقب ضربة على الضلوع... 

جميعهم صمتوا في المقصورة عندما سألتها بصوت خافت إلى أين هي ذاهبة... ذكرت لي اسم المدينة... دفعت ثمن تذكرتين والغرامة أيضا. وعندما انصرف المراقب، ظل من كانوا معنا في العربة ينظرون إلينا صامتين صمتا باردا مريعا،  غير أن صوتها كان حارا  وساخرا بشكل غريب وهي تطرح عليّ السؤال التالي: 

-هل أنت ذاهب إلى المدينة نفسها؟  

قلت بإني أستطيع أن أذهب.، وإني أعرف أناسا هناك ...لا أعرف بيتا بالتحديد...لكن... 

اقتصرت على آ ممدودة ...بعدها استندت من جديد إلى مسند المقعد. ووسط العتمة التي كانت تحيط بنا، لم أتمكن من أن أتبيّن وجهها إلاّ حين يضيئه أحد الأعمدة الكهربائية المنتصبة بمحاذاة السكة... 

كان الليل شديد الظلمة حين بلغنا المحطة. وعندما تركناها كانت المدينة قد غرقت في نوم عميق  تحت أوراق الأشجار  الحنونة، وكانت المنازل الصغيرة تتنفس سعيدة وهادئة... قلت  لها بصوت أبح: سأرافقك... الظلام شديد... 

عندئذ توقفت. توقفت تحت عمود كهربائي. نظرت إليّ نظرة ساكنة تماما، ثم قالت وهي تفتح شفتيها بصعوبة : 

-لو أنا أعرف فقط أين أستطيع أن أذهب؟  

تحركت ملامحها قليلا مثل لحاف تحت الريح. لا...لم أقبلها... ببطء رحنا نبتعد عن المدينة...أخيرا قررنا أن نندسّ داخل كوم من  التبن ... لم أكن أعرف في الحقيقة أحدا في تلك المدينة. في الفجر ، حين اشتد البرد، اقتربت منها فغطتني بقطعة من معطفها ...وهكذا شعر كلانا بالحرارة بفضل أنفاسنا، وبفضل دمنا...  

منذئذ لم نفترق...  

لم نفترق أبدا... 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات