: آخر تحديث

قوة الحكي وشحوب الرمز في فيلم "الأبد ويوم واحد" لسعيد روستايي

57
52
33
مواضيع ذات صلة

هل يمكن إنقاذ عائلة أناخ عليها البؤس بكلكله؟ وكيف يمكن إخراجها من دوائر السلب والحاجة والاعتلال؟ كيف يمكن إنجاد أسرة في سياق ثقافي –سياسي، تؤثثه الفردانية الصريحة والمصالح الفردانية المقنعة؟ كيف يمكن إعادة بناء المشتركات بين الإخوة، بعد أن اخترمهم الإدمان ( محسن/نويد محمد زادة)والاكتئاب والعصبية والتمرد والعدوانية ( ليلى/معصومة رحماني) والهدر النفساني-الوجودي (سمية/بريناز إزديار) والانشغال باستنقاذ الذات في سياق جماعي معطوب ( مرتضى/بيمان معادي )؟ هل يمكن للأخ (مرتضى)، الخارج من تجربة إدمان قاسية، والساعي إلى إيجاد المخارج المستعصية، بناء رمزية تعوض رمزية الأب الميت؟ 

نقد التدبير وتقريظ القيم الثقافية

إن بؤس الأسرة نتاج تدبير غير محكم، وافتقار شبه كلي، للذكاء الاجتماعي والحذق العملي. لا ينتقد المخرج سعيد روستايي، المرتكزات القيمية والأخلاقية للأسرة الإيرانية ، بدليل احتفائه الظاهر بالمشتركات وبتوهج العلاقات بين الإخوة في لحظات الصفاء والصحو النفساني (التقاط الصورة الجماعية/لحظات الابتهاج والرقص بمشاركة ليلى/معصومة رحماني المكتئبة عادة/حرص محسن/نويد محمد زادة على سلامة ومستقبل سمية بريناز إزديار/عطف مرتضى/بيمان معادي على أخيه الصغير نافيد/مهدي قرباني/ارتباط نافيد/مهدي قرباني الوجداني بسمية/بريناز إزديار. . . )، بل ينتقد نمط التدبير المعتمد (نقد حاد لغفلة وذهول الأم/شيرين يزدان بخش عن حقائق العالم وتعقيداته وافتقارها إلى الذكاء الاجتماعي والذكاء العملي المطلوبين في مثل وضعها (الاحتفاظ بمخدرات خطيرة )/غياب رابط موجه لطاقات أفراد الأسرة. ). ولئن استصغر الإخوة تدبيرها وسلوكياتها (حرصها على الترقيع والتمسك بالمقتنيات غير الصالحة وعنادها وسذاجتها. )، فإن أمارات وعلامات حدبهم عليها وحبهم لها لا تغيب عن عين الناظر المتروي. (إشراكها في لحظات التوهج والابتهاج/حرص محسن/نويد محمد زادة على بقاء سمية/بريناز إزديار في البيت وعدم الزواج بالشاب الأفغاني للعناية بالأم المريضة والمعاقة/الاعتناء بالأم/شيرين يزدان بخش حين ألمت بها أوجاع حادة. ). 

ترمز الأم/شيرين يزدان بخش المريضة والمعاقة، إلى ما تقادم وتختر وفقد، عمقيا، مسوغ وجوده، في عالم متحول. فهي مشدودة إلى الترقيع والرفو والاستعادة والارتباط غير العقلاني بالمتقادم والمفوت، وإلى تبرير ما لا يقبل التبرير، وإلى التخاذل حيث يجب القطع والحسم. 

إنها المعبر الفصيح عن الامتثالية الاجتماعية والثقافية في أسوأ تجلياتها، في سياق سياسي وثقافي لا يحفل كثيرا بالجمود في الأفكار العملية والسياسات التدبيرية وتدبير العلائق و ينهض على تغليب المصالح الظرفية أو الاستراتيجية على القيم الرمزية. 

بينما يرفض أفراد الأسرة نمط التدبير والتسيير و نمط تقدير التحديات وحجم الإكراهات والتعقيدات، فإنهم يتمسكون، شعوريا ولا شعوريا بقيم الأسرة، ويجتافون منظورها القيمي (احترام طقوس التوديع/تبخير غرفة محسن بعد تنظيفها وطلائها وتجهيزها/الحرص على سمعة العائلة ومكانتها رغم فقرها/البحث عن المعتدي المفترض على ابن الأخت أمير المتمرد. . ). 

وكما يتحكم تكافؤ الأضداد في رؤية الأبناء للأم، فإنه يسم بميسمه رؤيتهم للأب. فبينما تحن سمية/بريناز إزديار إلى زمان الأب وترغب في الاحتفاظ بصورته وتنظر إلى الماضي بحنين، فإن سلطة الأب الرمزية لم تكن بمنأى عن الاستشكال في أكثر من موقف. 

الاحتقان النفساني وعبثية العنف

يرصد الفيلم كثيرا من أمارات العنف في السلوك والعلاقات الاجتماعية. فبما أن شخصيات الفيلم مهدورة الكيان والوجود، ومجبرة على التكيف والامتثالية، فإنها تعبر عن غليانها الداخلي، بانفجارات عنيفة، وتشكك في نوايا الآخر (اتهامات محسن/نويد محمد زادة لأخيه مرتضى/بيمان معادي)، واحتقار مشوب بالتعالي عن الآخر (نقمة ليلى/معصومة رحماني المكتئبة على الرجال والسوى إجمالا). يبقى العنف الرمزي (المجادلات الحادة والتهديدات والتحديات والسخرية)، المتنفس المتاح للفرقاء، في غياب شروط حياة هانئة. ولا تكتفي الشخصيات في لحظات اللاتوازن وتأجج الغضب والحنق والغضب، بالعنف الرمزي، بل تلجأ إلى العنف المادي (اعتداء أمير ابن الأخت على خاله مرتضى/بيمان معادي مثلا). 

(يحاول الإنسان المهدور في هذا العنف أن يحطم مرآة ذاته المبخسة وفاقدة القيمة مجسدة في الآخر الضعيف والعاجز، والأكثر هدرا. كما يحاول نفي التبخيس وانعدام القيمة عن ذاته من خلال إسقاطهما على الآخر: إنه يحطمه كي يكون هو في نوع من قلب الأدوار حيث يتحول المهدور إلى كائن هادر.)1

تلجأ شخصيات الفيلم، إذًا، إلى الصراخ والجدال الحاد والسخرية، كلما اشتد احتقانها النفساني. 

يولد الاحتقان النفساني الجدال اللفظي غير المثمر (الجدال الحاد في المتجر بين مرتضى/بيمان معادي ومحسن/نويد محمد زادة)، ويفضي إلى العنف الرمزي (تهجم ليلى/معصومة رحماني على سمية/بريناز إزديار وشاهيناز/ريما رامين فر)، وإلى العنف المادي (اعتداء محسن/نويد محمد زادة على نيفاد/مهدي قرباني بعد رفضه اقتناء بعض السلع من المتجر/اعتداء مرتضى/بيمان معادي على محسن/نويد محمد زادة بعد إمعانه في استفزازاته واتهاماته وادعاءاته ضده). يتلو كل عنف رمزي أو مادي (اعتداء مرتضى/بيمان معادي على محسن/نويد محمد زادة)، هدوء (تحضير غذاء محسن/نويد محمد زادة)، تتلوه عاصفة أخرى من عنف رمزي عقيم (القبض على محسن/نويد محمد زادة قصد إدخاله مركز إعادة تأهيل المدمنين مرة أخرى). 

الفضاءات المغلقة والشخصيات المهدورة

اختار المخرج سعيد روستايي في فيلم "الأبد ويوم واحد-2016"، الفضاءات والأمكنة والنطاقات الضيقة، واستبعد الفضاءات والأمكنة والنطاقات الطبيعية الواسعة، لاعتبارات فكرية وفنية-درامية. وبينما تحفل سينما مجيد مجيدي (فيلم " باران-2001" و"شجرة الصفصاف-2005 "و"أغنية العصافير-2008" و"صبغة الله-1999" ) وعباس كيارستامي (فيلم "طعم الكرز-1997" و "أين يقع منزل صديقي؟ -1987". . ) وباهمان قبادي ( فيلم" زمان الخيول المخمورة -1999")، بالفضاءات الواسعة، وتخلق اشتباكات دلالية بين القيعان النفسانية وتوهج وتأجج الطبيعة، فإن سعيد روستايي، يميل في الغالب إلى الفضاءات المغلقة، (الغرف والأفنية والمتاجر). 

تكاد الشخصيات الدرامية المرسومة هنا، تفقد ارتباطها وإحساسها بجمال وقوة الطبيعة، من فرط استغراقها في إحباطاتها ونزعاتها وتطلعاتها الذاتية. 

تساعد الفضاءات المغلقة، في الواقع، على ما يلي :

1-إبراز انقباض الشخصية واختناقها ويأسها من جدوى الوجود في مكان مغلق رفقة أشخاص مهدورين ويائسين من إيجاد طريق آمنة سالكة وسط سديم سلوكيات غير مفهومة (أسرار وتفاصيل جرح أمير في وجهه) ومتاهات حياة قاسية (خروج محسن/نويد محمد زادة إلى الحديقة المجاورة لبيت اخته شاهيناز/ريما رامين فر/هروب محسن/نويد محمد زادة من مركز إعادة تأهيل المدمنين المغلق)؛

2-تأجيج الصراع الدرامي وإبراز مساحات العنف والحنق والتمرد والارتياب والاكتئاب والانقباض في دخائل الأبطال/الفرقاء؛

3-إبراز دائرية وعبثية أفعال الشخصيات (نقل نافيد/مهدي قرباني من جو العائلة المكهرب إلى جو منزل أخته الطافح بالعدوانية والعزلة والانكفاء على الذات والتنكر للقيم المرجعية (العنف الرمزي ضد الأصول). فبينما تنتقل هذه الشخصيات المهدورة بين الأمكنة (تنقل محسن بين غرفته وحارته ومركز إعادة تأهيل المدمين)، فإنها لا تبرح عالمها المسيج. وكلما استغرقت في السجال الحاد، والحوار غير المثمر، عجزت عن فهم وضعها ومقاصد وخلفيات الآخر ومقتضيات السياق الخاص والعام. فهي تجادل وتساجل وتتفعل سلبيا في الغالب، وتتهيأ للعنف الرمزي والمادي، إلا أنها تعود دائما إلى نقطة البداية. فحين تجتمع الأمكنة والفضاءات المغلقة، والمدارك والذهنيات والتوجهات المختلفة والجامدة، تنتفي شروط الحوار الناضج، وملابسات الجدال الخصيب المفضي إلى إعادة النظر في اختيارات الذات وإلى إعادة تقويم خلفيات ومقاصد الآخر. 

أعيد محسن/نويد محمد زادة مكرها إلى مركز إعادة التأهيل بطلب من مرتضى/بيمان معادي ، وعادت سمية/بريناز إزديار، مختارة، إلى منزل العائلة، وصار مرتضى/بيمان معادي مطالبا بإعادة المبالغ المالية المقترضة من نذير الأفغاني. لقد راهن مرتضى/بيمان معادي وسمية/بريناز إزديار، على زواجها من الغني الأفغاني، لتحريك السواكن وإخراج أفراد الأسرة من سلبيتهم المزمنة وعوالمهم المغلقة وتدابيرهم العقيمة. إلا أن الغاية لم تتحقق بعد إصرار سمية/بريناز إزديار على رفض زواج غير متكافئ ومنذور- لاعتبارات ثقافية واجتماعية وتاريخية -للإخفاق. 

يبحث أبطال سعيد روستائي في أحسن أحوالهم، عن استكمال الكينونة الاجتماعية ونيل الهناءة النفسانية، في عالم دائري مغلق بلا منافذ ولا نوافذ. 

يمكن الإيقاع السريع، اللاهث أحيانا، من استجلاء عمق المأساة. لا مجال في فضاء دائري، مشبع بالفقر والشظف والمتلاشيات والشك في الذات والآخر، للتأمل الاستبطاني أو الشاعرية الشفافة كما في أفلام عباس كيارستامي (فيلم "طعام الكرز –" 1997و"ستحملنا الريح -1999") أو استبصار الجوهري من خلال استحضار جمالية وشاعرية العالم أو الإنسان كما في أفلام مجيد مجيدي (فيلم "باران2001- "و"لون الفردوس -1999") أو استكشاف جماليات ومفارقات اليومي كما في أفلام رضا ميركريمي ( فيلم "مكعب السكر- 2011 ")، بل للجدال والمناقرة والمناكدة والمشاكسة. 

لا تهفو شخصيات الفيلم إلى استشكال مواقعها أو فهم المستغلق والمبهم أو تقليب النظر في أدواء الاجتماع والوجود الإنسانين، بل تنشغل، دوما، بحماية حيزها الخاص، المهدد دوما، بالاعتلال والتفكك. 

الحنين والهدر الوجودي

لا يبقى للأسرة إلا الحنين وذكريات الأب، وبضع صور من تاريخ آفل. إن الحنين، إلى هناءة ماضية، لا يشفع في تغيير واقع مأساوي، ولا في تحفيز الأشقاء على تغيير رؤيتهم إلى الأشياء والناس والعالم. 

ومهما حضرت معايير قيمية موجهة (الحرص على إنقاذ الأسرة والحدب على الشقيق الصغير النجيب والعطف على سمية/بريناز إزديار والخوف عليها من زواج غير مأمون، ثقافيا واجتماعيا وفيزيقيا بسبب الوضع السياسي بأفغانستان )، فإنها تفتقد إلى السند المرجعي الداعم والمحفز على المبادرة والفعل. 

يصعب تجسير الفجوة وبناء مشتركات بناءة وخلاقة بين الإخوة، في غياب مرجعية موجهة للتفكير والتوجيه والعمل. فبينما تنفصل ليلى/معصومة رحماني عن المجموع، فكريا وذهنيا ونفسيا وسلوكيا، وتنهج نهج التمرد والرفض واستشكال المعهود (وضعية مؤسسة الزواج راهنا، معنى الحياة الزوجية )، تفصح ازاد/شبنم مقدمي، الأرملة العاجزة عن الزواج خشية فقدان معاش الزوج المتوفى، عن تطلعاتها الفردانية، وشغفها بمباهج الحياة ( اقتناء سيارة وتفضيل تأثيل المال). 

يكتفي مرتضى/بيمان معادي بالترميق، واهتبال الفرص القليلة المتاحة (اقتراض المال من خطيب سمية/بريناز إزديار لفتح محل لبيع الفلافل)، لتحسين الوضع الاقتصادي للأسرة. 

ثمة مسافات لا تعبر بين الشخصيات بسبب ما يلي:

1-فقدان السلطة الرمزية: رغم حدب الأبناء على أمهم، فإنها لا تتمتع بأي سلطة رمزية أو أي توهج عاطفي. فهي لا تدرك حراجة وضع أبنائها ومآسيهم النفسانية والوجودية، وتكتفي بتكرار نثريات حياتها بدون تكيف أو تكييف والاعتزاز غير المسوغ ببراعتها في الترقيع وإصلاح ما تقادم. 

2-الاستغراق في العالم الداخلي: إن ليلى/معصومة رحماني ومحسن/نويد محمد زادة، غارقان في عوالمهما المغلقة؛ ولا يطلان على الآخرين إلا من كوة الضرورة (محسن مدمن وبائع المخدرات) أو من كوة المشاركة الاضطرارية (لا تشارك ليلى إلا في الحالات الطارئة والمستعجلة والاضطرارية). ويحول الاستغراق في العالم الداخلي، من بناء علائق متوازنة مع الآخر، والتفاعل مع إشكاليات الوجود الاجتماعي بفعالية وموضوعية ونجاعة. والأنكى أن ذلك الاستغراق النرجسي ظاهرا، مظهر من مظاهر الاكتثاب واحتقار الذات وتبخيس قدراتها والهدر الوجودي. 

(. . فإن الاكتئاب الوجودي في حالة الهدر يدخل المرء في حلقة مفرغة. إنه مهزوم لأنه مهدور، ولكن اكتئابه يضاعف من هزيمته ويرسخها من خلال النظرة التبخيسية إلى الذات وإمكاناتها وطاقاتها. وبذلك تكتمل الهزيمة التي كانت خارجية في الأصل بالهزيمة الذاتية.)2

3-غياب الثقة بالآخر: يطبع الارتياب علاقة محسن/نويد محمد زادة بمرتضى/بيمان معادي. وبما أن محسن لم يدرك مقاصد وغايات ومحفزات مرتضى، فإنه يعتبر مبادراته مجرد سلوكيات أنانية فردانية ( تزويج سمية/بريناز إزديار لإفراغ البيت من الإخوة والزواج بالفتاة المحبوبة والمجهولة في نفس الآن). يقرأ محسن/نويد محمد زادة مبادرات مرتضى/بيمان معادي بالإحالة على ماضي مرتضى/بيمان معادي ( الإدمان وولوج مركز إعادة تأهيل المدمين ) وخبرته بالمدمين وبعوالمهم ( تفسير استعمال مرتضى شريحة هاتف محسن بالرغبة في الاتصال بزبائنه ) ؛والحال أن مرتضى/بيمان معادي نجح كليا، في تغيير مساره الحياتي، وانشغل كليا، باستنقاذ أسرته من هامشيتها ومن تفككها وبؤسها الاجتماعي. 

لا تجد الشخصيات، إلا العنف والحقد والحنق والعدوانية (تهجم ليلى/معصومة رحماني على سمية/بريناز إزديار وشاهناز/ريما رامين فر واختياراتهما) والكراهية (اعتداء أمير ابن شاهيناز على خاله مرتضى/بيمان معادي ) والارتياب الجذري في الآخر ونواياه، في تفاعلها وتجاوبها واصطدامها بواقع سوسيو-تاريخي لا تحسن قراءته ولا النفاذ إلى معاييره وضوابطه. 

4-غياب المرونة الذهنية ومحدودية الذكاء الاجتماعي: إن شخصيات الفيلم أسيرة قلقها الاجتماعي –الوجودي، وعوالمها ودواخلها، ولا ترنو إلى التفاعل الخلاق مع الآخرين، للخروج من ورطاتها ومآسيها. باستثناء مرتضى وسمية العارفين بحراجة وضعية أسرتهما والساعيين إلى إيجاد معابر وجسور للانعتاق من أسر الهشاشة والدونية والضآلة، فإن الشخصيات الأخرى مستغرقة في عالمها وإحباطاتها وتطلعاتها وإخفاقاتها. 

بطولة المرأة

هل ستتمكن سمية/بريناز إزديار، من امتصاص الرضات والخضات، وتجسير الهوة بين الإخوة وإعادة بناء المشتركات بينهم على أسس ومعايير قوية؟ 

حاولت سمية مثل ليلى/ترانة عليدوستي في "إخوان ليلى" -2022"، إيجاد مخرج عملي من الاستعصاء الاجتماعي المهيمن على أوضاع أسرتها. ورغم تفانيها في البذل والعطاء وتمتين الروابط وإيجاد المعابر، فإنها لم تفلح في كسر الطوق النفساني -الاجتماعي المحكم. 

تغوص ليلى/معصومة رحماني في الاكتئاب والرفض والتعالي والمزاجية والتمرد والوسواس القهري (إدمان الاستحمام)، وتستعيض عن دفء العلاقات الإنسانية بالعطف والعناية بالقطط المعاقة. 

اضطرت سمية –في سياق سعيها إلى تغيير قواعد التعامل والتفاعل والفعل الجماعي –إلى تجسد بطولة اضطرارية؛ إلا أنها بطولة تراجيدية في العمق، لأنها لا تفضي إلى تغيير المعادلة الاجتماعية للأسرة، وإقرار توازن جديد، لا تلغي البطولة فيه الأنوثة، ولا يضحى فيه بالفرد على مذبح الجماعة. 

الأداء التشخيصي المركب

لم يحفل الفيلم بالثراء البصري ولا بالثراء النغمي أو الإيقاعي، ولا بالأداء التشخيصي المتعدد المستويات إلا في حالات معدودة (الأم/شيرين يزدان بخش وسمية/بريناز إزديار بخاصة). إن مشاهد الفيلم مطالب مثل مشاهد المسرحيات التراجيدية الكبرى ( هاملت أو الملك لير أو عطيل لشكسبير )، بمتابعة المجادلات وتأمل المحاجات والمساجلات والمدافعات، و رصد قدرة الممثل على الانخراط، جسديا وذهنيا و وجدانيا، في مجادلات يغذيها الهدر الوجودي والضياع النفساني والإحساس الممض بالضآلة الاجتماعية ( عبر عنها مرتضى/بيمان معادي في أكثر من موقف ). إن الممثل منشغل-هنا- بالفعل والحركة والحجاج، ولا يملك فرص سانحة، للاستبطان أو للتأمل ورصد المعاني والأبعاد المركبة للأشياء كما في ("طعم الكرز- 1997" لعباس كيارستامي أو "باران" لمجيد مجيدي. . ). 

إن الممثل مستنفر في سينما سعيد روستايي مثل سينما أصغر فرهادي (مجادلات نادر/بيمان معادي مع سيمين/ليلى حاتمي في فيلم " انفصال-2011"/مجادلات الرفاق في فيلم " بخصوص إيلي-2009" بعد اختفاء إيلي/ترانة عليدوستي مثلا)، للمجادلة (مجادلات محسن/نويد محمد زادة ومرتضى/بيمان معادي/مجادلات ليلى/معصومة رحماني مع سمية/بريناز إزديار/مجادلة وسخرية ليلى/معصومة رحماني من شاهيناز/ريما رامين فر) والحركة والتجاوب اللحظي ( اتلاف المخدرات الموجودة في غرفة محسن/نويد محمد زادة/التلاسن مع ياسر، صديق أمير وتهديده قبل معرفة سر جرح أمير/اعتداء أمير على مرتضى بعد إصرار أمه على الاتصال بصديقه/تضليل نافيد/مهدي قرباني لأفراد البوليس الباحثين عن منزل محسن/نويد محمد زادة )، لتفادي المخاطر. ينمو البناء الدرامي من خلال المجادلات والمجاذبات العنيفة، إلا أنه نمو دائري في النهاية ؛إذ لا تتمكن الشخصيات من معانقة الفضاءات الفسيحة والمبهجة، أو إيجاد بدائل ناجعة لمشكلاتها النفسانية والوجودية والاجتماعية أو تغيير مسارها الشخصي أو المهني بالكلية. 

والملاحظ أن شخصية الأم/شيرين يزدان بخش الأقل حركة بسبب المرض والإعاقة هي الشخصية الأكثر تركيبا وتعقيدا في فيلم (الأبد ويوم واحد). كان من الضروري، توظيف كل قدرات وكفاءات هذه الممثلة المقتدرة (الملامح وتعبيرات الوجه ووضعيات الجسد المختلفة ونبرات الصوت والنظرات )للتعبير عن عالم داخلي وسلوكيات منسوجة من الغفلة والمرارة والسذاجة والألم الجسدي المبرح والعناد والمكابرة والتلذذ بالترقيع وإصلاح ما يعز إصلاحه والتمسك بالموروث و المحبة والإحساس الباطني بالانسحاق . . . ). 

كان من المطلوب، إبراز الزخم الدرامي لهذه الشخصية، الجامعة بين تناقضات متعددة (الحضور -الغياب/السذاجة-اليقظة الذهنية/الهشاشة الجسدية -العناد/السلبية -الاحتفاء بالذات/تمني الموت -التمسك بالحياة) والباعثة على استجابات مختلفة (/الحب-اللامبالاة/الحدب-السخرية). 

ولم يخل دور سمية/بريناز إزديار من التركيب والتعقيد. ففيما تهفو إلى التناغم النفساني، فإنها تستغرق في متاهات مؤثثة بالتناقضات (التصميم والإرادة -الحيرة والقلق/الحنين إلى هناءة الماضي/مكابدات مآزق وإشكاليات الحاضر المستعصية/التخطيط والتدبير -الإخفاق والعودة إلى نقطة البداية/الحزم واليقين-الكشف عن الحنين والخوف واللايقين. ). تستنفر بريناز ازديار/سمية، كل كفاءتها التشخيصية والتعبيرية والأدائية، من أجل نقل الثراء الدرامي للشخصية والتعقيد الملازم للموقف الدرامي. وقد فرض التعدد والتعقيد الملازمان لهذه الشخصية، التنقل بين حالات نفسانية وتعبيرية مختلفة (التذكر والحنين إلى الأب/البكاء المرير بعد إتلاف مخدرات محسن/نويد محمد زادة/التماسك ونقد نفعية السلوك والبراغماتية أمام محل بيع الفلافل/المشاركة في حفلة الرقص المرتجلة احتفالا بتفوق نافيد/مهدي قرباني/الاصطدام بليلى/معصومة رحماني الساخطة والساخرة والناقمة على الكل/الإحساس بالمرارة والانسحاق بعد تنديد ليلى/معصومة رحماني باستعمال مشروع الزواج كأداة للضغط العاطفي والوجداني والاجتماعي على إخوتها. . . ). لا تكتفي سمية/بريناز إزديار، بالاستغراق في الجدال والحجاج والحركة، بل تختلف استجابتها وتفاعلها مع الإكراهات تبعا لنوعية الرهان (تدبير زواج عملي مع غني أفغاني ) وطبيعة المعضلة (التخلص من المخدرات وإقناع ليلى/معصومة رحماني المتمردة بتغيير سلوكها ) وخصائص الشخص المحاور (ليلى/معصومة رحماني العصبية وأزاد/شبنم مقدمي البرغماتية الباردة أومرتضى/بيمان معادي المثقل بالأعباء ونيفاد/مهدي قرباني الباحث عن حضن آمن أو محسن/نويد محمد زادة العنيد والميال إلى العنف بتأثير الإدمان والهشاشة النفسانية-الاجتماعية ). فهي محبة حادبة على نيفاد/، مهدي قرباني ومتفاهمة ومتفقة على المقصد الجوهري مع مرتضى/بيمان معادي ، وناقدة للأم ومرتبطة، عاطفيا ووجدانيا بالأب الراحل، و رافضة لتمرد وانطوائية واكتئاب ومزاجية ليلى/معصومة رحماني. ما كان من الممكن تشخيص هذه المواقف الدرامية المتنوعة، دون تنويع وتعديد تقنيات التشخيص الدرامي وفهم عميق لتركيبة الشخصية ودورها المحوري في إدارة العلائق. 

الموسيقى التصويرية والإيقاع الدرامي

لا يستعين سعيد روستايي بالموسيقى التصويرية، في إبراز وإيضاح مسارات الحكاية. فبما أنه يثق في الحكاية المشوقة والإيقاع الدرامي العالي وقدرات الممثلين العالية على التشخيص والتقمص والتعبير عن أدق المشاعر والانفعالات بمهارة احترافية عالية، فإنه لا يحفل كثيرا بالموسيقى التصويرية. فهو يشكل صوره السينمائية دونما حاجة، لدفق النغم أو لقوة الإيقاع أو كثرة المؤثرات الصوتية. لا يحتاج إلى جمل موسيقية مركبة، ليبرز قوة واحتدام الحدث الدرامي، أو ليكشف عن لحظات الابتهاج العابرة أو الحزن والألم والانسحاق والغضب والحنق والمرارة والتيه. إن تعابير وجه سمية/بريناز إزديار في لحظات الوجع ووضعيات جسدها (الدمعة المسكوبة في الليل) والانسحاق النفساني (كشف ليلى/معصومة رحماني عن امتناع سمية/بريناز إزديارعن فتح هدايا نذيرالأفغاني وعدم ردها على اتصالاته الهاتفية وإخفاؤها قصدا لبطاقتها) بليغة في إيصال الإيقاع الدرامي إلى ذراه. 

لم لا يحفل سعيد روستايي كثيرا ، بالموسيقى وبإدماج الجمل الموسيقية في صياغة الصورة و بناء الأحداث الدرامية؟ 

فبما أنه يعتمد كثيرا على الملفوظ والجدال في البناء والصياغة الدراميين ويراهن على قدرة الممثل على الأداء التراجيدي العالي وعلى الرفع من حدة الوقع العاطفي لدى المشاهد، فإنه لا يستعين بالجمل الموسيقية، القادرة-مبدئيا- على إبراز كثافة ودرامية وتراجيدية الحدث الدرامي. فالممثل في "الأبد ويوم واحد-2016 "في وضعية مبارزة تراجيدية، مع أقرانه، يحاول -وكأنه في حلبة أو ركح- إثبات سلامة قصده وفعله وعدم مسؤوليته عن مصيره الاجتماعي. 

تكفي قوة الاشتباك التراجيدي بين شخصيات مختلفة السمات والطبائع والمواقف والاختيارات، لترفع الإيقاع الدرامي، وتشحن الصورة بزخم درامي كبير. يزيح الحوار الموسيقى التصويرية والتعبيرية في فيلم "الأبد ويوم واحد-2016"، إلا أن الإيقاع ينتظم ويرتفع والشحنات العاطفية للمشاهد الدرامية الأساسية مرتفعة. 

وقد كانت موسيقى أميد رئيس دانا، تأملية تجمع بين الحنين والتأسي والحلم بعالم جديد كما في مشهد تنظيف وتبييض وتجهيز غرفة محسن/نويد محمد زادة. 

من مظاهر التشابه بين سعيد روستايي و أصغر فرهادي (في فيلم " انفصال" -2011 و"بخصوص إيلي"-2009و"الماضي" -2013)، قلة الاحتفال بالموسيقى في البناء والنسج والصياغة الدرامية. 

قوة الحكي وشحوب الرمز

يعتمد المخرج سعيد روستايي، على الملفوظ/الحوار أكثر مما يعتمد على الإيحاء أو التعبير البصري الشاعري وعلى الإيحاءات والتنبيهات. ولذلك تغيب الرموز البعيدة والكنايات والمجازات العالية في فيلم منشغل باستقصاء اعتلال الراهن. 

فبما أن الشخصيات محاصرة وسجينة دائرة نفسانية-اجتماعية ضيقة ومحكومة بالتوتر والانسحاق والمرارة والخوف من المجهول، فإنها غير قادرة على الاستكشاف أو الكشف أو الاستشراف. وحيث إنها مستغرقة في متطلبات الراهن العاجل، فإنها لا تملك المسافة الذهنية والوجدانية للتأمل والتفكير في مسارات حياتية أو وجودية بديلة. 

تقترب سينما سعيد روستايي، من سينما المخرج أصغر فرهادي، بالنظر إلى اعتنائهما بالحكاية وقوة الملفوظ والحوار (فيلم" انفصال-2011" و"بخصوص إيلي -2009"). لا يميل –روستايي -كثيرا إلى رصد الأعماق والدخائل ، أو استقصاء مظاهر القلق النفساني أو تقصي آليات الهدر الوجودي، بل يعمد إلى تطوير الحكاية من خلال التفاعل السلبي أو الإيجابي للشخصيات الدرامية مع الأحداث والمستجدات والوضعيات المشكلة، نفسانيا واجتماعيا. 

ينصرف فيلم "الأبد ويوم واحد "إلى الراهن والمكشوف والمعلن والظاهر، ولا يحتفي بالرمز أو المجاز أو الكناية. إن مساحة التأويل الرمزي أو المجازي، ضيقة للغاية، في عمل لا يومئ بل يعين، ولا يكثر من الرموز بل يكشف عن أعطاب الراهن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. 

 

---------

1- مصطفى حجازي، الإنسان المهدور –دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –بيروت، الطبعة الأولى 2005، ص 294
2- المصدر نفسه، ص 287 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات