قصة البشرية هي أيضًا قصة البيئة والتطورات التي شهدتها، والتغييرات التي طرأت عليها، منذ أن بدأ الإنسان يمشي منتصب القامة على ساقين مستقيمتين قبل ستة ملايين عام تقريبًا. فمنذ ذلك اليوم يغيّر الإنسان البيئة وفقًا لاحتياجاته ومتطلبات حياته.
إيلاف من بيروت: يروي القصة الباحث الفرنسي لوران تيستو تحت عنوان "عوارض الدهر، تاريخ البشرية البيئي"، Cataclysmes :Une histoire environnementale de l'humanité (يقع في حوالى 500 صفحة، ثمن النسخة 22.50 يورو، منشورات بايو) يروي سردًا لتاريخ البيئة، ومعها تاريخ جميع الثورات الكبرى التي مر بها الإنسان، وعددها سبع ثورات، كانت أولاها وقوف الإنسان الأول على ساقيه، وانفصاله عن فصيلة الشمبانزي، علمًا أن أقدم هيكل عظمي بشري عُرف حتى الآن يحمل اسم "توماي"، وقد عثر عليه في تشاد في عام 2001.
كانت تلك الثورة الأولى التي مكنت الإنسان من اكتشاف محيطه النباتي والحيواني بشكل أفضل، رافق ذلك تطور دماغه، الذي أصبح يستهلك حوالى 25% من طاقة جسمه.
النار واللغة والفن
يمكن تسمية الثورة الثانية بالثورة المعرفية أو الإدراكية، ويدخل في إطارها اكتشاف النار. وقد عثر المتخصصون على أقدم أثر لها في الصين، ويعود إلى ما قبل 800 ألف عام.
الاستقرار والتحضر أثرا على الإنسان |
بعد النار جاءت اللغة، التي سمحت للأفراد بالتفاهم وبالتنسيق في ما بينهم، ثم ما لبث الفن أن ظهر بشكل متزامن تقريبًا في مناطق عديدة ومختلفة وحتى متباعدة، حيث عثر على كهوف، قدر العلماء عمر الرسومات الفنية داخلها بأربعين ألف عام قبل عصرنا الحالي، وقد عثروا عليها في أوروبا وأندونيسيا وأستراليا.
خلال تلك الحقب كلها كان الإنسان لا يزال يعتمد على الصيد وقطف الثمار، ولم يكن تأثيره كبيرًا جدًا على البيئة المحيطة به حتى جاءت الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث، وبدأ الإنسان في أنحاء مختلفة من العالم يتحكم في زراعة الشعير والحنطة والأرز والذرة والبطاطا ومحاصيل أخرى كانت ضرورية لحياته.
منذ تلك الفترة، أي قبل 12 ألف عام قبل الميلاد، تحوّلت حياة الإنسان، وأصبح مستقرًا إلى جانب أرضه المزروعة ومحاصيله رغم أنه ظل يقطف ثمارًا أخرى، لم يكن قد تحكم بزراعتها بعد، وظل يصيد حيوانات يحتاج لحومها وجلودها.
نمو سكاني
تلك الثورة الزراعية أثرت في حياة البشر بشكل عام، وساهمت في زيادة عددهم من 50 مليون نسمة إلى 100 مليون في أنحاء الكرة الأرضية كافة، ثم ما لبث العدد أن ارتفع إلى 200 أو 250 مليون نسمة خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد.
بالطبع تأثرت البيئة المحيطة أيضًا بهذه الزيادة وبتخصيص أراض واسعة للزراعة وتقلص عدد الأشجار والمساحات التي تكسوها الأحراش وتزايد عدد البيوت والتجمعات السكنية.
فيما يرى علماء أن الاستقرار والتحضر أثرا أيضًا على الإنسان، الذي أصبح يعاني من أمراض جديدة، منها هشاشة العظام، ثم قصر الطول. ففي الألفية السابعة قبل الميلاد لم يتجاوز طول إنسان الشرق الأوسط 163 سنتمترًا، أي أقل بعشرة سنتمرات من طول الإنسان الذي سبقه، والذي كان يعتمد في حياته على الصيد وقطف الثمار.
أصناف منقرضة
رافق الثورة الزراعية ترويض الحيوانات، وكانت البداية مع الذئب، 18 ألف عام قبل الميلاد، ثم مع الخنزير، فثيران انقرضت الآن. أثر الترويض في أصناف الحيوانات المروضة نفسها، وأدى إلى تغيرها، كما أدى إلى انقراض مجاميع حيوانية أخرى.
وخلال العصر الجليدي الأخير، أي ما بين 100 ألف و10 آلاف عام قبل الميلاد، بدأت أصناف ضخمة من الحيوانات اللبونة بالظهور، غير أن الإنسان ظل يطاردها ويصطادها، حتى وصلت إلى مرحلة الإنقراض، ومن بقاياها الحيتان والفيلة، وهي في طريقها إلى الإنقراض حاليًا.
في الألفية الرابعة قبل الميلاد ظهرت الكتابة، وتزامنت مع ترويض الخيل واختراع العجلة، وبدأ العصر البرونزي، ثم العصر الحديدي، الذي منح الجيوش وسائل قتالية وتدميرية ممتازة. ومن المؤكد أن كل هذه النشاطات أثرت في البيئة المحيطة بالإنسان.
بعد ذلك جاءت الأديان، وبدأ تداول النقود، استمر ذلك حتى العصر الوسيط وحتى ثورة الطاقة في حوالى 1800. وخلال تلك الحقبة الطويلة تطورت الثقافات والأديان والفلسفة ابتداء بأخناتون حتى الإسلام، ومن أبيقور إلى ابن خلدون.
نمو وانحسار
يشرح الكاتب ما رافق كل هذه التغيرات من تأثيرات على البيئة، حيث طور الإنسان الطرق، وبنى المدن والقرى والعواصم، وزرع أشجارًا، واقتلع أخرى، ومهّد لنفسه سبلًا سهلت عليه الانتقال لمسافات بعيدة، وأسس بنى تحتية مهمة، لاسيما في ظل الإمبراطورية الرومانية، ثم الصينية، ثم ما يدعى بالثورة الخضراء الإسلامية، التي شهدت نقل مزروعات من مكان إلى آخر، فيما كانت الغابات تغطي حوض الأمازون قبل وصول الأوروبيين إليها.
وفي فترة الاستكشافات الجغرافية وتحرك الشعوب الأوروبية في مناطق العالم الأخرى انتشرت النباتات وتنقلت وازدادت تنوعًا. في العالم الجديد اختفى ما يقارب من 90% من سكانه المقدر عددهم بستين مليون شخص قبل انتهاء القرن السادس عشر وتأثر التنوع البيولوجي فيه، وانتشرت ميكروبات نقلها المستوطنون معهم، أصابت المجتمعات الجديدة بأمراض لم تكن تعرفها في السابق، ومنها الجدري والتيفوس وذات الرئة والحصبة والسل، وراحت تحصد السكان، قبل أن تنتقل إلى جزر المحيط الهادي، لتفعل فعلها هناك. ولم تتوقف إلا بعد تكون نوع من المناعة لدى هذه الشعوب.
أما الحمى الصفراء والملاريا فكانت فعالة في منطقة الكاريبي وأميركا الجنوبية، وقد أثرت في الوافدين من أوروبا إلى حين اكتشاف علاج الكينين في القرن السابع عشر. وبعدها انتشرت زراعة هذه المادة في الهند ثم في أندونيسيا.
بفضل انتشار زراعة البطاطا والذرة والجزر وما إلى ذلك من مزروعات في أوروبا، لكن أيضًا في الصين، تسارع النمو السكاني بشكل واسع. وفي نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر تم اختراع المحركات التي تعتمد على الفحم، وبدأت الفترة الصناعية، لاسيما في انكلترا، التي تمتلك خزينًا ضخمًا من الفحم.
استمر التصنيع في مناطق عديدة من أوروبا. وتذكر إحصاءات أن عدد قتلى الأسلحة في الحرب العالمية الثانية تجاوز للمرة الأولى في العالم عدد الوفيات بسبب الجوع أو المرض. في هذه الأثناء اهتم العالم بالمحروقات وبالنفط، وشهدت مناطق إنتاج هذا النوع من الطاقة تغيرات واسعة أثرت بشكل كبير في البيئة فيها، كما أثرت حتى على طبيعة السياسة المتبعة فيها، حيث أدت إضرابات عمال مناجم الفحم إلى تثبيت أسس الديمقراطية في دولها، فيما طورت الدول البترولية أنظمة دكتاتورية.
الثورة الحيوية والانترنت
ينتهي الكاتب بالثورتين الأخيرتين، وهما ثورة الانترنت، التي بدأت في تسعينات القرن الماضي، ثم الثورة الحيوية التي لا تزال تخضع لتجارب بمختلف الأشكال والأهداف.
بالنتيجة يتوصل الكاتب إلى أن كل تطوّر مرت به الإنسانية ترك أثره في البيئة بشكل أو بآخر، ويشمل ذلك تحركات الفايكنج وعصر كولومبوس والحروب الرومانية وتوسع الإمبراطورية الصينية وحتى الهجرة إلى أستراليا وغيرها من المناطق البعيدة.
أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "نوفيكسيون". الأصل منشور على الرابط:
https://www.nonfiction.fr/article-9042-les-7-revolutions-de-lhumanite.htm