يتعامل داعش مع الأفكار على أنها مادة استهلاكية تعبوية وليست دينية أو إنسانية تحمل قيمًا خاضة للنقاش، بغية صناعة أيديولوجية تساهم في إطالة عمر تنظيمه عبر إغراءات دنيوية وما بعد دنيوية تجذب الشباب فتجندهم.
إيلاف: أكد أستاذ علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن أن تنظيم "داعش" يتعامل مع الأفكار باعتبارها مجرد مادة استعمالية، وليست أفكارًا دينية ولا فلسفية ولا إنسانية، ولا تحمل قيمًا قابلة للنقاش أو الجدل، إنما ترمي من خلالها إلى صناعة أيديولوجية، تحافظ، بقدر المستطاع، على تماسك التنظيم، من خلال ربط عناصره بقياداته وأهدافه، وتسهيل عملية التجنيد، كما إن التعبئة والمخاتلة التي يقوم بها التنظيم لقطاعات من الشباب، إن تم ربطها بالأهداف المباشرة لها، فلن تحمل الجاذبية والإغراء الذي يكمن في الأفكار أو الأيديولوجيات.
خدعة الانتصار
وقال: "تستعمل "داعش" الأفكار أيضًا في إطالة عمر التنظيم، وهو ما سبق أن حاوله تنظيم القاعدة، حيث كلفت قياداته الميدانية والرمزية بعض منتجي المعرفة الدينية التقليدية من بين صفوف التنظيم، بتأليف أو توليف تصور بوسعه أن يربط عناصر التنظيم به، ويجعل ما يفعلونه على بشاعته مقبولًا لديهم، ويصطاد له زبائن جددًا، ويساعده على تسويق وجهته، والرد على منتقديه، لاسيما من منتجي الخطاب الديني المضاد".
شبه دولة... لخلافة مزعومة |
ورأى عمار علي حسن في كتابه "شبه دولة: القصة الكاملة لداعش" الصادر من دار الدلتا للنشر والتوزيع أن "داعش" يبدو كأنه الطور المتأخر، وإن لم يكن الأخير، من مسار العنف الذي ارتكبته وألفته جماعات وتنظيمات رفعت لافتة الإسلام أمام عيون شباب المسلمين، وخدعت بعضهم، فانضموا إليها، وهم يظنون أنهم بهذا ينصرون الدين، ويحققون أهدافه، ويقيمون الشرع، ويحققون مقاصده، لتتسع رفعة الدماء والخراب باسم الإسلام، وهو منها بريء، وإذا كان داعش قد صار النموذج بالنسبة إلى كثير من المتطرفين والإرهابيين فإن دراسته على وجه دقيق تصبح أمرًا مهمًا".
قدم عمار علي حسن رؤية متكاملة سردًا وتحليلًا لكل ما يتعلق بهذا التنظيم الإرهابي من حيث مناهج فهمه، وسبل التعامل معه، والمسار التاريخي الذي سلكه، وطريقة تكوينه، ومكوناته الأساسية والفرعية، ومصادر تمويله، وطبيعة مجتمعه، وتكيكاته الحربية، وخرائط انتشاره، ومنابر إعلامه، والأفكار الحاكمة له، ونظام التعليم في المناطق التي يهيمن عليها، وأساليب العقاب القاسية التي ينفذها ضد منتقديه ومخالفيه ومناهضيه.
توظيف الماضي
وتناول حال الأطفال والنساء في ظل حكمه الذي يفرضه بالحديد والنار، والبيئات الحاضنة والموظفة والمنتجة له، وذئابه المنفردة، وخلاياه النائمة، وطريقته في تفكيك الدول باستعمال الدين، والقوى الدولية وأحهزة المخابرات التي أنشأته وتغذيه وتوظفه، وكذلك مستقبله القريب والبعيد.
وأشار إلى أنه كعادة التنظيمات الدينية المسيّسة، بمتطرفيها ومدّعي الاعتدال فيها، لم يكن بوسع "داعش" أن يبدأ من الصفر في تصوره الفكري، وهذه خاصية بنائية في تفكير أتباع هذه التنظيمات، فهي ابتداء لم تحدث أي قطيعة فكرية مع الماضي، بل توظفه في صناعة مسلكها، وتبرير سلوكها.
وهي ثانيًا لا تبدأ من الصفر في كثير من عناصرها، الذين قبل أن ينضموا إلى تنظيم ما يكونوا قد انتموا إلى آخر سابق عليه. فعلى سبيل المثال فإن عناصر الصف الأول في "داعش" انحدروا من "القاعدة"، والأخير هو خلاصة ما توصلت إليه "التنظيمات الجهادية"، التي شهدها العالم الإسلامي منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، أو كان الطور الأخير لها في القرن العشرين..
من ثم نجد أن "داعش" نهل من المخزون "الفكري" لـ "القاعدة"، لاسيما في الجانب المتعلق بـ "الجهاد" الذي يعني في الحقيقة لديهم ممارسة العنف المادي في أقسى وأقصى صوره، وكذلك أفكار "جماعة الإخوان" خاصة في المسائل المرتبطة بـ "استعادة الخلافة" و"الطاعة" داخل التنظيم، و"تمثيل الإسلام" أو إدعاء التعبير عنه تعبيرًا حقيقًا، ونفي هذا عن سائر المسلمين، خصوصًا الجماعات والتنظيمات الأخرى التي تستغل الإسلام في تحصيل السلطة السياسية والثروة الاقتصادية".
إدّعاء الوهابية
أضاف عمار "يسوّق تنظيم "داعش" لأفكاره بأنها مستمدة بالأساس من الدعوة الوهابية، وقام بالفعل بطبع بعض الرسائل والمطبوعات البسيطة التي حاولت البرهنة على هذا الأمر. لكن علماء السعودية يرفضون هذا، جملة وتفصيلًا، ويستندون في رفضهم إلى ما ذكره بعض المنشقين عن "داعش" من أن حلقات التنظيم ومدارسه، تخلو من هذا، بل هناك توجيه صارم بالتخلص من تراث نجد والحجاز، والقفز عليه، وتجاوزه، وعدم ربط الطلاب به.
بالقطع فإن التنظيم يستفيد من موروث طويل من الأفكار التي أنتجت في سياقات شبيهة، إلى حد ما، بالسياق الذي يحيط بداعش في الوقت الراهن، وحوتها كتب قديمة، نقلت منها كتب حديثة ومعاصرة، أثرت في الأفكار التي تحكم داعش، والتي جاءت في كتب مثل "إدارة التوحش" لأبي بكر ناجي، و"ملة إبراهيم" لأبي محمد المقدسي، و"فرسان تحت راية النبي" لأيمن الظواهري، و"معالم في الطريق" لسيد قطب، و كتابي" مسائل من فقه الجهاد" و"معالم الطائفة المنصورة في بلاد الرافدين" لأبي عبدالله المهاجر، وكتاب "دعوة المقاومة الإسلامية" لأبي مصعب السوري، و"أهل التوقف بين الشك واليقين" لحلمي هاشم، و"العمدة في إعداد العدة" و"الجامع في طلب العلم الشريف"لسيد إمام عبد العزيز، المعروف باسم الدكتور فضل".
انسجام مفقود
ولفت إلى أن خطط وتكيتكات داعش القتالية ترتبط بتركيبة التنظيم وهياكله، ونوع القيادة وخبرتها، والأيديولوجية التي يعتنقها وتؤثر فيه تأثيرًا كبيرًا. وفي الحالات الثلاث فإن داعش يعاني من غياب الانسجام، رغم أنه يحاول في الظاهر إيهام الناس أن مقاتليه على قلب رجل واحد.
فهناك أيديولوجيات وأهداف عدة متباينة، تتوزع على أساسها العمليات العسكرية لداعش في اتجاهات متعددة. فمن بين القادة ضباط في الجيش العراقي أيام حكم صدام حسين، وسلفيون جهاديون. أما الجنود الذي يقاتلون على الأرض فهم خليط من سلفيين محليين ومهاجرين، وصف ضباط في الجيش العراقي المنحل. ونصف هؤلاء تقريبًا شباب تحت سن الثلاثين.
وأكد عمار أن هذا التنوع أوجد رؤى متباينة بين الوحدات المقاتلة، فبعض المحاربين يلتزمون بالقتال في موقع واحد فقط، لا سيما عندما ترتبط مشاركتهم مع داعش بصراعات قبلية وطائفية محلية. ولذا فبالنسبة إلى مثل هؤلاء المقاتلين تنتهي الحرب حين يخسرون معركتهم المحلية، المعزولة.
على النقيض هناك مقاتلون يحاربون خارج مساقط رؤوسهم، ويتماهون أكثر مع الأهداف العامة والواسعة للتنظيم، مثل الدفاع عن "أرض الخلافة" وتطبيق النهج الإسلامي، وفق تصور داعش فيها. وبعض المحاربين تسوقهم تجربتهم الذاتية مع "الجهاد" مثلما مارسوها في بلدان أخرى، مثل أفغانستان واليمن والجزائر وغيرها، ويشغلهم تحصيل مجد عسكري. وفي ظل هذا التباين تبرز في كثير من الحالات اختلافات بين ما يريده التنظيم أو يحتاجه وما يصبو إليه الأفراد.
الانهيار مصيرًا
ونبه إلى أن داعش يعتمد في قتاله على وحدات صغيرة، تتحرك هنا وهناك، في محاولة لشغل المسرح العسكري، والتمسك بالأرض التي سيطر عليها التنظيم، والتحرك بخفة بين الناس، الأمر الذي يزيد من تأثير العوامل السابقة. ومن هنا يمكن اعتبار التنظيم مجرد تجمع لمجموعات أو فصائل قتال مسلحة، تخوض في معظم الأحيان اشتباكات تكتيكية، تعتمد على التعزيز الدائم للعدد والعتاد.
ويبدو أن قادة صغار في التنظيم، يمتلكون هامشًا كبيرًا من الحرية في ما يتعلق بالتخطيط للعمليات وتنفيذها، وهذا يتسبب في معاناة الوحدات المقاتلة من "الارتباك التكتيكي" المزمن، الذي يعوق أحيانًا اتخاذ زمام المبادرة، ومهاجمة العدو.
ومن هنا فعلى المستوى التكتيكي، تُعتبر عناصره شديدة الخطورة، ولا تزال قادرة على تحقيق الانتصارات في الاشتباكات، ولكن على مستوى العمليات تفتقر إلى التماسك الاستراتيجي، وتُظهر عجزًا مزمنًا عن الدفاع عن الأراضي التي تحت سيطرتها. لكن اللامركزية في إدارة المعارك تتيح حرية واسعة للقادة المحليين في تخطيط العمليات وتنفيذها، على مستوى الفصائل. وتتحكم في المتطوعين الأفراد خلفية التزامهم الشخصي بالجهاد المسلح، ورغبتهم في القتال وتحقيق النصر.
تناقض مع البعث
وحول "ما بعد داعش" قال عمار "ليس هناك ما يمنع أن يجري على "داعش" ما انسحب على غيره من التنظيمات والجماعات والقوى الدينية المتشددة، من انهيار بعد انتصار، وغياب بعد حضور طاغ ولافت، وهدوء بعد صخب وإزعاج شديدين. فهذه التنظيمات تنشأ في الخفاء، ثم تصعد إلى السطح بقوة أعمالها الإرهابية، من قتل وتدمير وتخريب وتهديد، ليلاحق الإعلام أخبارها لاهثًا، حتى يظن المتعجلون والمرجفون أنها قد سادت، وأن وجودها القوي هذا سيستمر زمنًا طويلًا، ثم يجدونها قد تراخت وتراجعت، وصارت أثرًا من بعد عين، تاركة وراءها تاريخًا دمويًا، وأفكارًا سابحة، تسعى إلى أن تحط في رؤوس آخرين، فتدفعهم إلى تكوين تنظيم جديد".
أضاف "هذا المسار سيذهب إليه "داعش" ولو بعد حين، لأنه يحمل في داخله بذور فنائه، فهو خليط من أيديولوجيات شتى، تصل إلى حد التناقض التام، إذ ليس هناك ما يجمع من الناحية "الفكرية" و"الفقهية" بين بعثيين سابقين من بقايا حزب البعث والجيش العراقي الذي تم حله عقب احتلال بغداد، وبين سلفيين جهادين انحدروا من أماكن عدة".
أوضح عمار "فضلًا عن الفكر، فهذان الطرفان متنافران في الهدف، فالبعثيون يريدون العودة إلى حكم العراق، أو على الأقل الانتقام ممن أسقطوهم عن الحكم، سواء كانوا الأميركيين أم من تعاونوا معهم من العراقيين، بينما السلفيون الجهاديون يتحدثون عن استعادة "الخلافة" على هيئتها التي كانت في القرون الوسطى، بل أكثر منها كثيرًا.
الانقلاب بعد تمدد الخطر
وهناك بين الاثنين بعض الصوفيين المنتمين إلى "النقشبندية" ممن حملوا السلاح ضد الاحتلال. كما إن "داعش" ساهمت في صناعته على هذا النحو أجهزة استخبارات إقليمية ودولية، تتقارب مصالح دولها وتتباعد، وتتعاون وتتنافس، وفق تقلب السياسة، على أساس تغير المصالح، بمرور الوقت.
هذا الأمر يحدث خلخلة في صفوف التنظيم، ستؤثر على تماسكه، وهو القيمة المركزية لديه، التي يراهن على استمرارها حتى يبلغ هدفه، أو على الأقل يحافظ على وجوده. كما إن بعض هذه الدول، والتي صنعت داعش، انقلبت عليه بعدما استفحل خطره، وأعلن عن أهداف أخرى غير المتفق عليها مع قياداته الإرهابية، وبات يهدد الجميع، من دون تمييز، ويغير اتجاهات معاركه. ولهذا وجدنا في الفترة الأخيرة اتفاقًا إقليميًا ودوليًا، إلى حد كبير، على ضرورة توجيه ضربات عسكرية قوية للتنظيم، بغية القضاء عليه، أو تقليل خطره إلى أدنى حد".
ورأى عمار "أن الطريقة التي يقاتل بها داعش لا تمكنه من الاحتفاظ بالأرض التي احتلها، فنمط حرب العصابات قد يفلح في الدفاع عن أرض يملكها المحاربون بالفعل، لكنه لا يُمكِّنهم من التوسع إلى أرض جديدة بشكل مستمر. وحتى من الناحية الدفاعية لا يتيح هذا النمط من القتال للمحاربين البقاء طويلًا في أرضهم وإدراتها، ترابًا وسكانًا ومعنى، على أنها دولة. وهناك من مقاتلي داعش من يخوضون معارك محلية جدًا، دفاعًا عن قرى أو مناطق جغرافية معزولة، فإن هزموا فيها يعتبرون أن الحرب قد انتهت بالنسبة إليهم".
إكمال المسيرة
يوضح متابعًا: هذه النزعة اللامركزية في القتال، وإن كانت تتيح للقادة المحليين حرية في التصرف، لكنها، مع مضي الأيام، تأكل من الهدف الرئيس الذي أعلنه التنظيم، وجند وعبأ كثيرين من دول مختلفة حوله، وهو "إقامة الخلافة". ويجب ألا نقلل من حالة التذمر المستمر التي تنتاب السكان المحليين من تصرفات داعش، لاسيما في سوريا، فإذا كانت بعض العصبيات القبلية والمذهبية قد أتاحت للدواعش وضعًا مريحًا في البداية على أرض العراق، فإن الأفكار التي يؤمن بها التنظيم سرعان ما تتصادم حتى مع من فتحوا له الطريق في البداية، أو على الأقل صمتوا عليه.
يضيف: فإصرار داعش على ممارسة دور الدولة الدينية، من حيث فرض الضرائب، والحسبة، وإقامة الحدود، وتحديد قواعد السلوك وأنماطه في الأسرة والمدرسة وأماكن العمل والشارع، يجعل الاحتقان ضده مستمرًا، لأن كثيرًا من هؤلاء السكان اعتادوا أنماط عيش مختلف، وليس بوسعهم أن يستبدلوها بغيرها سريعًا على النحو الذي يريده داعش، بل من بينهم من يرفض تصورات داعش وتدابيره من الأساس. وحتى الدواعش أنفسهم جاءوا من ثقافات متباينة، وبعضهم لم تتمكن أفكار داعش من عقله وقلبه بعد، ومن ثم لن يقبل طواعية التضييق المستمر على حريته الفردية. لكل هذا فإن مصير داعش يبدو معروفًا، إلا أن نهايته لا تعني أن الأفكار التي أطلقها في فضاء التشدد الديني ستنقضي، بل ستسبح إلى تنظيم غيره، يظهر في المكان نفسه، أو في مكان آخر، ويضاف إليها مزيد من الانغلاق في الرؤية، والتوحش في التصرف، وهذا هو المسار الذي تأخذه حركة "الإسلام السياسي" لأنها لا تجد من يعالج أمراضها من الجذور".