في عالمٍ مثالي، صندوق الاقتراع هو آخر حصن للموطن، مكان تُودَع فيه إرادة الناس بأمان. في عالمنا، الصناديق أحيانًا لا تكون سوى صناديق مُثَقَّبَة، ليس بالمعنى الحرفي فقط، بل بالمعنى السياسي: ثقوب في الإجراءات، في الحراسة، في الشفافية، وفي ضمائر من يفترض أن يَحموا الصندوق.
الصناديق المثقوبة هي تلك الثغرات النظامية واللوجستية التي تتيح تلاعبًا منهجيًا: صناديق تُملأ قبل الفتح.
صناديق تُنقل من محطة إلى أخرى. محاضر تُحرَّف بعد العد. مراقبون يُفسَخ حضورهم بأعذار واهية. قوائم انتخابية مُستنسخة أو مُزوّرة. كلها ثقوب تكفي لتمرير "حصص النتائج" كما تُمرَّر وجبات في مطعم مُغلق.
حشو الصناديق: أصوات تُضاف بعد الإغلاق، أو تُملأ الصناديق مسبقًا بأوراق انتخابية تحمل اسم مرشح محدد. نقل الصناديق: صناديق تُؤخذ إلى مراكز فرز بعيدة حيث "تسقط" الأصوات في قوائم مجهولة. تكرار الناخبين: سجلات غير محكمة تسمح بأيادٍ متعددة بالتصويت باسم واحد. التحكم في المحاضر: موظفون يُغيّرون محاضر الفرز أو يستبدلونها بنسخ معدّلة.
إقصاء المراقبين: وجود مراقبين مستقلين يُقلق بعض الأطراف — فبعضها يعمل على عزلهم أو شراء ولائهم.
الضغط والتخويف: عمليات تخويف للناخب أو الموظف تجعله يتردد عن الإبلاغ عن المخالفات.
التزوير لا يحدث دائماً عبر يدٍ واحدة أو صندوقٍ واحد. إنه عملية منظّمة تشمل اللوجستيات، المال، شبكات النفوذ، وغالبًا مؤسسات رسمية أو شبه رسمية تُسهِم — دون تفسير — في تمكين هذه الثغرات: نقل سيارات، تأمين مرافق ليلية، وأسماء "موتى" تُفرز لهم أصواتٌ حيّة.
لماذا تنجح الحيلة؟ ضعف الرقابة: مفوضية ضعيفة أو غير مستقلة تسهّل التلاعب. قوانين غامضة: قوانين فيها ثغرات تسمح بالتحايل القانوني. ثقافة الإفلات من العقاب: من يشارك في تزوير الانتخابات يكسب منافع قصيرة الأمد ويشعر بالأمان. تعب المواطنين: الشعب يصاب بالاستكانة نتيجة تكرار الخيبات، فيقل الاهتمام والمتابعة.
كيف نُسدّ الثقوب؟ (بخيال عملي — إن وُجدت النية): تعزيز رقابة مستقلة: مفوضية انتخابات مستقلة، وإشراك منظمات دولية ومحلية موثوقة. بث مباشر للفرز: كاميرات في مراكز الفرز ورفع البث للجمهور. حماية المراقبين: ضمان سلامة ومشاركة مراقبين مستقلين من البداية للنهاية. أرشفة إلكترونية آمنة: نسخ محاضر إلكترونية وختمات رقمية لا تُغيّر. قوانين رادعة: عقوبات صارمة على من يتورط في التزوير، وصولًا للمساءلة الجنائية. توعية الناخبين: تشجيع المشاركة، ورصد الممارسات، ونشر محاضر محلية فورية.
الصناديق المثقوبة ليست مشكلة "ميكانيكية" فحسب؛ هي مرآة لحالة سياسية: عندما تَثقُ الدول بأقلامٍ بدون رقابة، وبقانونٍ بلا عيون، لا عجب أن تصبح صناديق الاقتراع مخرطة تُشكل بها النتائج على مقاس من يدفع أكثر.
إن أردنا أن نُعيد لصناديقنا قدسيتها، علينا أن نُسدّ الثقوب بوعيٍ شعبي، بقوانينٍ قوية، وبمنظومة رقابية لا تأكلها "الفسادوية". وإلا، فسنبقى نردد في كل انتخابات: "صوتي اختفى؟ لا، صوتي تبرّع به أحدهم لمرشحٍ بالصدفة!"
يقولون “الصندوق لا يكذب”، وربما صدقوا… هو لا يكذب، لكنه فقط يتلقى التعليمات قبل أن يتكلم. فالديمقراطية عندنا بخير أيضًا، طالما نراها فقط في نشرات الأخبار، لا في صناديق الاقتراع.
في نهاية المشهد، يظلّ الصندوق واقفًا في مكانه، مهيبًا كرمزٍ فقد قدسيّته، تُلقى فيه الأصوات بوقارٍ احتفاليّ، ثم تُستخرج منه النتائج بمهارةٍ مسرحيّة. نحن نؤمن بأن التصويت واجبٌ وطنيّ، وهم يؤمنون بأن التزوير فنٌّ سياديّ.

