: آخر تحديث

ماذا وراء الجدل حول مصير شرطة الأخلاق الإيرانية؟

20
19
14
مواضيع ذات صلة

بعد أشهر من الإحتجاجات التي فشلت كل أساليب القمع الإيرانية في قمعها أو حتى التخفيف منها، بدأ نظام الملالي يبعث برسائل تهدئة من نوع مخالف لطبيعته وفلسفة عمله، حيث لم يسبق لهذا النظام أن قدم أي تنازلات فيما يتعلق بسياساته المتشددة، ولاسيما تلك التي يرى أن لها بُعداً دينياً، وبالأخص ما يعرف بشرطة الأخلاق التي كانت مثار جدل دائم منذ سنوات طويلة، بل طالما سببت الأزمات للنظام ولكنها أفلتت ونجت من كل الأزمات وبقيت تمارس عملها رغم كل ما يحيط بها من رفض وكراهية تعود في الأخير على النظام ذاته، ولجلب المزيد له من الغضب الشعبي الذي يبدو هذه المرة متصاعداً لدرجة يصعب السيطرة عليها.
مؤخراً، أعلن المدعي العام الإيراني محمد جعفري منتظري، إلغاء شرطة الأخلاق، المعروفة باسم "دوريات الإرشاد"، المكلفة بمراقبة إلتزام النساء بارتداء الحجاب في الشوارع والأماكن العامة، وقال منتظري في مؤتمر صحفي "شرطة الأخلاق لا علاقة لها بالقضاء وقد أُلغيت".
القرار في هذا الشأن ـ لو صح فعلياً ـ فسيبدو سياسياً بامتياز، ويستهدف احتواء او امتصاص الغضب المستمر في المدن الإيرانية منذ وفاة الشابة الكردية مهسا أميني، عقب إعتقالها بسبب عدم إلتزامها بارتداء الحجاب، ولكنه لا يعني تغييراً في ممارسات النظام وفلسفة عمله لأن إلغاء شرطة الأخلاق التي وكلت إليها مهمة تنفيذ القانون المتعلق بارتداء الحجاب لم يأت ترجمة لإلغاء القانون ذاته، بل إلغاء الجهة القائمة على تنفيذه وربما تبديلها لاحقاً بأداة تنفيذية أخرى، بمعنى تبديل الوجوه وليس تبديل السياسات.
هذا التنازل المتمثل بإلغاء شرطة الأخلاق، رغم صعوبته على قادة الملالي، فإنه لن يحقق الأثر المرجو على الأرجح لسبب أساسي وهو أنه جاء متأخراً، فالمطالب لم تعد تستهدف إلغاء هذه الشرطة، بل إرتقت إلى حد التمسك بسقوط النظام، أي أن سقف الإحتجاجات قد ارتفع وتجاوز فكرة المطالبة بإلغاء شرطة الأخلاق ورفض ممارساتها، والإحتجاجات الآن تنصب على قضايا ومظاهر معاناة أشمل منها الفقر وتردي المستوى المعيشي لغالبية الإيرانيين وانتشار الفساد والبطالة والتهميش والعنف ضد المرأة والأقليات، والنساء الإيرانيات يقلن في تصريحات منشورة أنهن خلعن الحجاب بالفعل ولم تعد هناك قوة قادرة على فرضه عليهن، وأن مطالبهن باتت متعلقة بقضايا أخرى.
الأرجح أن هذا التنازل ـ لو صح ـ يبعث برسالة معاكسة تماماً للمحتجين والغاضبين وهي أن النظام قد بدأ رحلة التنازلات التي تخالف سلوكه السياسي تماماً، وهذا يعني بدوره أن الملالي يستشعرون حالة من الضعف والتراجع في نفوذهم، ولذا يصعب القول بأن مثل هذا الخطوة أو غيرها قد تسهم في إحتواء الغضب الشعبي بل قد تسهم في تغذيته وتشجيع المحتجين على مواصلة الاحتجاج بأشكال مختلفة وعبر قنوات متنوعة من أجل مواصلة الضغط على النظام سواء بهدف تحقيق المطلب الأساسي للمحتجين وهو اسقاط النظام، أو بهدف الحصول على المزيد من التنازلات الكبرى.
في كل الأحوال، فإن اللافت للنظر أن نظام الملالي قد تأخر كثيراً في قرار إلغاء شرطة الأخلاق رغم أن هذا الجهاز ليس جزءاً من مكونات النظام منذ بداياته عام 1979 بل نشأت وتأسست في عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد وبدأت في ممارسة عملها عام 2006 من أجل إلزام النساء بإرتداء الحجاب، وهذا يعني أنها دخيلة على الثقافة التي آمن بها الجيل الأول من قادة النظام في عهد الخميني، وربما يعود ذلك إلى تركيز هذا الجيل على إنشاء المؤسسات المعنية بالحفاظ على النظام، مثل ميلشيات الحرس الثوري بأفرعها المختلفة. واللافت أيضاً أن قرار الإلغاء قد جاء عقب فترة وجيزة من تصريحات المدعي العام الإيراني محمد جعفري منتظري بشأن دراسة إمكانية تغيير القانون الذي يلزم النساء بارتداء الحجاب في الأماكن العامة، وهذا يعني احتمالين إما أن الأمر استقر على الإكتفاء بالغاء الجهة المنوط بها تنفيذ القانون ولاسيما أنها المتسبب في الأزمة بتشددها وعنف عناصرها، وأن هذه الخطوة يمكن أن تكون أكثر فائدة وأسرع تأثيراً في المحتجين من إنتظار إجراءات البرلمان والقضاء لتغيير القانون نفسه أو حتى الغائه، بحيث تكون الخطوة التالية هي إلغاء القانون في حال إستمرار الإحتجاجات وعدم كفاية قرار إلغاء شرطة الأخلاق، أو أن هناك إتجاه فعلي لإلغاء القانون ولكن ارتأى الملالي الإسراع بالإعلان عن قرار إلغاء شرطة الأخلاق لمحاولة تهدئة الغضب، ومن ثم الاكتفاء بذلك في حال نجاح هذا التكتيك والإبقاء على القانون باعتبار أن إلغائه ينطوي على تنازل جوهري يفوق في دلالاته كثيراً قرار إلغاء الشرطة المنفذة له، والمتهمة أساساً بممارسة العنف والإنتهاكات ضد النساء.
بلا شك أن هناك شواهد عدة لتراجع النظام وتخليه عن التشدد الذي طغى على الخطاب السياسي في الأسابيع الأولى للأزمة، حيث يلاحظ إختفاء الوجوه والشخصيات المعروفة بالتشدد والصلافة، حتى أن الوضع قد فرض على الرئيس إبراهيم رئيسي، الذي سبق أن حشد مؤسسات الدولة في يوليو الماضي، أي منذ أشهر فقط، ودعا إلى تعبئة عامة لتنفيذ قانون الحجاب، متهماً قوى أجنبية باستهداف قيم البلاد الثقافية والدينية، ولكنه عاد مؤخراً ليقول في تصريح متلفز "إن أسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية منصوص عليها في الدستور ولكن هناك أساليب مرنة لتنفيذ مبادىء الدستور"، وهذا يعطي رسالة ضمنية بشأن التراجع عن التشدد والتراجع عن أفكاره وتوجهاته فيما يخص قانون الحجاب، الذي يعتقد أن بإمكان النظام التخلي عنه تماماً في حال استشعر أن "جرعة الحريات" يمكن أن تكون حاسمة في تحديد مصير بقائه في السلطة، لاسيما أن مسألة الزي وغيرها من المسائل محل الخلاف بين قادة وتيارات النظام الإيراني، حيث سبق أن شهدت فترة حكم الرئيس السابق حسن روحاني تخفيفاً في التزام شرطة الأخلاق بتنفيذ قانون الحجاب، لدرجة اعتقد فيها الكثيرون أن هناك ضوء أخضر باتجاه السماح بالمزيد من الحريات لاسيما تلك المتعلقة برداء النساء الإيرانيات.
بين روحاني ورئيسي تغير حال الإيرانيات، وازداد القمع والتشدد وفاقم الإحساس بالأزمات المعيشية والحياتية، ولكن نظام الملالي ربما يتجه أيضاً للتراجع وتقديم التنازلات في خطوة سبق أن توقعناها في مقالات مماثلة، وقلنا أن إستمرار الإحتجاجات سيجبر النظام على تقديم التنازلات، ولكن أثر ذلك يبقى قيد التوقيت وحجم التنازلات، ولكن الغريب أن قرار المدعي العام الإيراني لا يزال موضع خلاف وشكوك، حيث لم تؤكد الحكومة الإيرانية هذا القرار بل قالت وسائل إعلام إيرانية محلية أن تصريحات منتظري قد أُسىء تفسيرها، وهي الحجة التي يرفعها دائماً النظام الإيراني حين يريد التنصل من موقف ما. ولكن لو صح ذلك فإننا بصدد صراع أجنحة وخلاف بين مؤسسات النظام الإيراني وأجهزته حول سبل التعامل مع الإحتجاجات الشعبية المستمرة، لاسيما أن شرطة الأخلاق تتبع إدارياً جهاز الشرطة ووزارة الداخلية الإيرانية ومن أعلن عن حلها هو المدعي العام التابع لجهاز القضاء، وهذا مايفسر أيضاً تهرب وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان من الرد على سؤال بشأن مصير هذه الشرطة، فلم ينف قرار الألغاء ولم يؤكده!.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.