أنتهى الفصل الأول من المسرحية الكوميدية باختيار رئيس الجمهورية، بانتظار الفصل الثاني. رأينا مسرحية مدرسة المشاغبين بنسختها العراقية، حيث النواب يمارسون شغبهم ونفاقهم وهلوساتهم وعبوديتهم في اختيار الرئيس، يقودهم مخرج أجنبي معروف النسب يختفي وراء الستار ليختار الممثل الذي يلتزم بالتعليمات، ويرسم له حركاته وهمساته، ويحول النص إلى مشاهد وأصوات.
عَبث ما بعده عَبث بالعراق؛ صبية سياسة يلعبون بمقدرات الشعب على هواهم وأمزجتهم، لا رحمة لهم بفقير يبحث عن رغيف خبز بشق الأنفس في المزابل، ولاشفقة بمريض جسده مطرز بأوجاع المرض المزمن، ولا رأفة بشاب جميل يحلم بوظيفة وبيت وعروسة.
قلوبهم معهم كذباً بالصوت والصورة فقط، لكن سيوفهم عليهم بالأفعال. قصة تذكرنا بالحسين عليه السلام مع الفرزدق وهو يتجه من مكة إلى العراق؛ ما وراءك يا أبا فراس فقال الشاعر:
"تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك" فقال الحسين: "ما أراك إلا صدقت. الناس عبيد المال. والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم، فاذا محصو بالبلاء، قل الديانون".
صدعوا رؤوسنا ليل نهار منذ أشهر بالتغريدات والمظاهرات والاستعراضات والاقتحامات والخطب الرنانة للإجابة عن سؤال المصير؛ الإصلاح من التنسيقي لا التنسيقي من الإطار رغم إن الديك واحد، والدجاجة من الديك نفسه. هناك عشيرة توافق، وعشيرة اغلبيه يتخاصمون على من يفتح منهم مجاري الانسداد السياسي لأن الرائحة بدأت تزكم الانوف. لعبة تقاطعات وصراعات صبيانية أنتجت لنا التوافق الذي لا يلد ولا يبيض!
سبحان الله مغير الأحوال، اجتمعوا القوم معاُ من كل الأجناس والهويات والانتماءات؛ أجتمع العميل الأمريكي والإيراني والتركي والخليجي والبريطاني والإسرائيلي. قالها الجميع عن بعضهم البعض قبل الاتفاق والمصافحة علناً.
صار لهم حلفاً عالمياً مدججاً بسلاح العمالة على تناول "الهريسة" المُطعمة بالزعفران الإيراني والكركم الخليجي والأعشاب التركية والفلفل الإسرائيلي والدارسين الأمريكي. وهكذا عرفنا بالدليل والاعتراف إن الوطن يغرق بالعملاء من كل صوب وحدب، وسر الجيف التي تأتينا مع رياح سياسة الهبلان. وسبب ما يحدث للعراق من بلاء وخراب.
أنتهى الفصل الأول، بقدوم الرئيس الجديد، وترشيح رئيس الوزراء، وسياتي الفصل الثاني سريعاً بالتسميات والتوافقات، حيث توزيع المناصب بمقاسات الطوائف والقوميات. سنعود للمحاصصة وتقسيم الغنائم، ومعارك الوزارات والمؤسسات. هذا لك، وهذا لي، والعراقي ليس له هذا، ولا ذاك!
لن يكون للشعب حصة تموينية مملوءة بالبروتين والفيتامينات، وإنما حصة مملوءة بغازات الكربوهيدرات والنشويات والسكريات لانتفاخ البطن وزيادة أوجاع القولون. سيعود الشعب ليرى الوجوه القبيحة الكالحة من جديد، وسيسمع نفس النغمات السياسية، وتعاسات العيش المر، ومقامات الحزن الجنوبي، وبوذيات الوجع العراقي.
ليس تشاؤما منا لقدوم التوافقي لموقف مسبق، وإنما قراءة لواقع لا يمكن تغييره حيث وجود دولة عميقة متجذرة في الأساس بالحديد الصلب، وعملية سياسية عرجاء محكومة ببنود دستور ملغم بعشرات الألغام، وسلاح منفلت يتضاعف ولا يتناقص، وأجندات أجنبية لا تقبل إلا بالفوضى، وتدمير ما تبقى من البشر والحجارة والزرع، وأحزاب غير مؤهلة لقيادة بلد بحجم العراق، حيث جُربوا عشرات المرات ولم يحصد الشعب منهم إلا الكوارث والأزمات والفقر والخراب. جاءوا اليوم من جديد، وقد شغلتهم السلطة والمال، وأنستهم فتوى مرجعهم الديني "المجرب لا يجرب“!
وفي كل انتخاب يأتي رئيس الوزراء بملاحم من الخطط والأمنيات لاستمالة العقول، ويضع الأولويات والاستراتيجيات لبرنامجه الوزاري، مبشراً الشعب بالقضاء على الفساد والسلاح المنفلت، وتنمية البشر والوطن. لكن بعد خروجه من الرئاسة نجد الفساد يتوسع رقعته، والسلاح في أعلى صوته وقوته، والفقر في أعلى درجاته. كلام الليل يمحوه النهار!
لا أدري إذا كان محمد شياع السوداني يستطيع أن يخرج من "القمقم" ويهشم زجاجة الجعفري ومن تلاه، أم أنه سيخترع لنفسه خارطة طريق استثنائية تخرج من المألوف، وتنقذ ما تبقى من هياكل منخورة بالصدأ. كان الله في عونه وهو يسير على الغام مازال الكثير منها لم تنفلق!
وماقيل عن صفاته ومؤهلاته ونظافته لا تشفع له أن يكون مختلفاً عن أسلافه؛ ابن بار لأحزاب قتلت أحلام العراقيين، وبيئة سياسية ملغومة بالفساد والسلاح المنفلت بكواتم الموت، وعملية سياسية عليلة بشخوصها وسياقاتها، ودولة عميقة ليس لها أبواب، و"اغلبية" تنتظر أصوات مفرقعات الهزيمة، وشعب صعب المراس والمزاج في بلد العجائب والطرائف.
هناك ارتفاع مهول في منسوب الفساد، وانفلات السلاح، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا توجسا من القادم، لأن ساسة العراق يعيشون مرحلة اللامبالاة على الرغم مما وصل إليه العراق من خراب منظم، وتراجع في قيم المجتمع. فهناك سعي حثيثٌ لا يتوقف في خلق الأزمات وافتعالها لجرنا نحو مستنقعات العملية السياسية الآسنة، ومزابلها، ومراحيضها السياسية. وليس أَدَلَّ على ذلك ما يعيشه الشعب من غيبوبة يأس قاتل، وكفر بالساسة والسياسة، وزهايمر هذيان في العقل لنسيان الألم والجراحات.
ما عاد الشعب المقهور يهمه ذهاب (علاوي) ومجيء (عليوي) أو مرور (عادل) وذهاب (عدولي) أو طيران (الكاظمي) وهبوط (السوداني)، ومغادرة حزب (الحمير) وعودة حزب (البعير) أو (الفيل). لا يهمه الثنائيات ولا التوافقات أو الأغلبيات لأن النتيجة واحدة؛ أفعال لا محل لها من الأعراب، وكسور عددية لا قيمة لها، وأصفار على اليمين.
جربنا (شعيط) وعشنا مع (معيط)، وسمعنا شحيج البغال، وخَوار الثيران، ونهيق الحمير، فاكتشفنا إن الأصوات مختلفة، ولكن الأصول مشتركة، والسلالات واحدة؛ جميعهم يتناغمون مع مقام النهاوند!