عشرون عاما، والعراقي أبو "النخوة" يحلم، وينتظر الفرج ويصبر على ما جرى له. وفي كل مرة يقول بطيبة: خيرها بغيرها، والصبر مفتاح الفرج، وأن مع العسر يسرا. بالرغم من أنه خاض تجارب قاسية بالمآسي والأحزان لم يعرفها البشر لا في عصر "يا زمان الأندلس" ولاعصر الطغاة أو المغول أو عصر "زمان اللصوص والسَبنديّة".
عشرون عاما من عمر العراقي ذهبت مع الريح، كأنها قشة قصمت ظهره بسبب الأحمال التي حملها تفوق طاقته البشرية؛ ماتت أجيال بسبب العوز والمرض، وسحقت أحلام شباب قبل أن تولد، وترى نور الوطن، وهدمت قيم راقية كانت تتأسس عليها الحياة، وخربت بيوت الثقافة والعلم، وأستباح الأغراب الأرض والحضارة، وهدموا القديم الجميل ليأسسوا بلدا للنفايات والمخدرات ودعارة الغيبيات.
عشرون عاما، رأينا عجباً من العجب، بين رجب ومحرم، فسلط الله على العراق الجهلة ولصوص المال، فأدخلوه في نفق لا نرى في نهايته أمل، بلد "كاروك هزاز" يلعب به شعيط ومعيط وجرار الخيط، ويتقاسم أرباحه المالية تجار الدين والسياسة، وتحرك "استراتيجيته" السياسية طقاطيق وشخابيط السيد والشيخ والرعيان. رأينا العجب في المصطلحات؛ انسداد في المجاري السياسية، وتوافق وطني على آبار النفط، وأكثرية وطنية على الوزارات والمعابر الحدودية.
عشرون عاماً، لم نكتشف فيها على رجل دولة، ولا على سياسة تفوح منها عطر الديمقراطية وحقوق الأنسان. اكتشفنا أننا نعيش بين "هتلية" جياع سلطة ومال، ومافيات سلاح ومخدرات، وتجار لحوم بشرية، وحرامية دين مستورد يكرهون جمال الحياة.
وإذا ما أخبرنا محلل سياسي "كتكوت" من أصحاب "شَذر مَذَر“ بأن القادم أفضل، والتغيير قريب، فأقرأ السلام على هذه الفكرة لأنها اختبرت عشرات المرات ولم تنتج لنا سوى فقاعات سياسية تلاشت مع غبار الأحزاب وذهبت مع مجاريهم العفنة المسدودة. فنحن شعب العاطفة، والذاكرة المغيّبة بأفيون الطقوس الدينية؛ يهمنا الأجر والثواب حتى ولو كان وهماً وخداعاّ. هل نسيتم ما حدث في تشرين الشباب الحلوين، وكيف قُزمت ثورتهم بالاغتيال والقمع والموت الرخيص؟ وكيف تآمر البعض ممن كان من دعاة الإصلاح والتغيير؟
أم إن التاريخ نقرأه بعين التقديس والتدليس؟
ما يحدث اليوم سوى غيمة سياسية عابرة، وكسر إرادات بين القادة، وصراع مصالح. سينشغل الشعب بتغيير الرايات الحسينيّة بأخرى جديدة، وتتغير اللعبة بطريقة أخرى، والنتيجة يمكن استنباطها من التاريخ؛ صلح القبائل بعد حروب مستعرّة ومدمرّة بالأمكنة والبشر ثم قبلات غبية وخائنة على الوجنات، وولائم طائيّة تفتخر بالكرم المريض. وتبقى الحقيقة الأكبر بأن الأوطان لا يبنيها "السيد" و"الشيخ" و"الزائر" و"شيخ القبيلة" بل تبنيها العقول العلمية والمُتمدنة.
عشرون عاما، سمعنا كثيرا ولم نجني منها إلا الدمار والهلاك والجوع والظلمة والمرض. فلم تبقى لنا آذان نسمع بها، وهي حسنة طيبة لكي لا يجرأ أحداً في هذا الزمن على تطبيق نظرية “جرة الأذن“. فنحن شعب "الجبارين" لا نسمع ولا نرى ولا نتكلم، وليس لنا رائحة ولا طعماً؛ فقدنا عذرية المقاومة، وكفاءة الرجال ونخوة الوطنية. ومثلما قلت في أكثر من مقالة لا تأتمنوا شعارات البعض، فالأصل واحد وان تعددت الفروع. كل يبكي على ليلاه!
سيأتي محرما بعد أيام، وشعبي ما زال يصرخ في باب الحسين: هيئات من الذلة، وهو مع الأسف غارق في بحر أحزان الذلة وعبودية السلطة، وغيبيات الطقوس. صارت شهور العراق كلها عزاء وحزن، وصار الحسين شاهداً على مأساة العراقي الذي يتجرع مرارة مظلوميته كل يوم، ويشرب من كاس شهادته. فالحسين قضية ومنهج حياة وعطاء ومقاومة، هو سيد الشهداء الذي علم البشر شجاعة الموقف والإيثار من أجل انتصار الحق، وتحقيق العدالة.
سأقول كلاماً حزيناً وصعباً، أن الذين ينتظرون عاشور اليوم، ما زالوا في دائرة غيبوبة الماضي، ودجل السحرة والكهنة، وأبجديات الشعوذة المستوردة. ما زال القطيع يتحرك بأمر الآخر الذي يستغل المذهب والحسين في تحريكه إلى منطقة الذل والعبودية، وتحقيق المصالح الفردية.
ليس معقولا أن تصبح عباءة السيد خلاصاً وطنياً، أو بصقة شيخ علاجاً لأورام الظلم، أو سيارة أحدهم مبعث خير وبركة، وان تلعب "تغريدة" واحدة في عقول البعض، وتسلب منه إنسانيته ومصير وجوده، ويصبح حطباً لنار الآخرين.
ليس معقولاً من شعب أن يشتكي ليل نهار على مصائبه الحياتية وأمراضه وجوع معدته أن يصرخ يوميا في الشوارع والفضائيات "هيئات منا الذلة" وهو يتناول كوليسترول الذلة في طعامه اليومي، ويلعب به دعاة الطائفة كما يشاؤون، ويصرون على إفقاره جوعاً، ويزرقونه بأبر ذل الخنوع. نعم ليس معقولاً أن يصبح الشعب أداة لبقاء السلطة بحجة حماية المذهب، وأن يعيش بين المزابل ومستنقعات المجاري ومبازل الموت، وان يبقى أبناءه رهن اعتقال بسطات الشوارع ومقاهي المخدرات.
ليس معقولاً أن يأتي محرماً هذا العام، وهو يحمل نسائم أبو الشهداء، وننشغل بالطقوس الحزينة دون أن يكون بيننا الحسين مقاتلاً من أجل التغيير والإصلاح لنكون مثالاً لمواجهة ظلم الأحزاب الدينية وسلطة اللصوص. فالعبرة من النهضة الحسينية هي استلهام الدروس، وإنقاذ العباد من الجهالة والتيه، وحيرة الضلالة، وبناء وعي مقاومة الظلم، والنزوع إلى التغيير، وبرمجة العقول باتجاه العلم، واستنباط أفعاله الراقية.
المعقول، أن يكون عاشور اليوم هو لأسقاط نظام الظلم والقهر بدلاً من الذهاب إلى كربلاء بالنحيب واللطم. نريد فعلاً مبني على المفعول، لا مفعول به لاستعراض العضلات السياسية المبرمجة على الاستسلام وخداع الجياع، أو مجروراً بالتباهي والمناورة. وقتها سنرى أبو الشهداء رفيقاً لنا، وداعماً للمظلوم، وناصراً للحق، ومبشراً بالتغيير لأنه المقاومة والقضية والمنهج.
نريد أن يكون الحسين رمزاً للمقاومة. فما كان للحُسين يَنمو.