: آخر تحديث

أهمية النخبوية في التنوير

70
69
60
مواضيع ذات صلة

إلى وقتٍ قريب كانت المعرفة الفلسفية نخبوية إلى حدٍ كبير في العالم العربي، لعدم تواجدها كمنهج أو تخصص في أروقة المدارس والجامعات، ولسيادة وشيوع الاعتقاد بأن الدين والعلم يغنيان عنها وأنها لم تَعُد سوى إرث ثقافي تاريخي في مسيرة وتطور الفكر البشري، ولانشغال الناس بأرزاقهم من خلال التركيز على التخصصات العلمية والطبية التي تضمن لهم المستقبل الوظيفي . 

إلا أن هناك ميزة كبرى عندما كانت الفلسفة نخبوية، حيث كان الإنتاج الفلسفي والفكري غزيراً وعميقاً ومُؤثِّراً وإبداعياً، وبعد أن أصبحنا في هذا العصر محاطين بوسائل الراحة وتوفر خدمات كان مجرد تخيُّلها يُعد ضرباً من الجنون، أصبحت الفلسفة ترفاً، وحينئذ دخل في مضمارها من رأوا فيها وسيلة لتحقيق الشهرة أو الاسترزاق(بغض النظر عمَّا إذا كان هذا أخلاقياً أم لا)، أصبحنا نرى نماذج هزيلة ومؤلَّفات تُشكِّل عبء في المكتبة العربية. من هنا أجدني من مؤيدي النخبوية في مجال الفلسفة والفكر لحماية تلك المنظومة والحفاظ على قداستها من أن تُلطَّخ بفعل الدخلاء. 

أصبحت بضع تغريدات تويترية مصدراً عند البعض وأصبحت تعطي صاحبها شهرة يفوق بها علماء وفلاسفة كبار، بل أصبح هو المعرفة وهم النكرات! وبمقدار شهرته ومتابعيه تزداد ثقة الناس به.

في تويتر يكفي أن تضع في البايو(مهتم بالشأن الثقافي، فيلسوف، عالم وباحث) وسيُصدِّقك الجميع. 
التنوير ليس عبارات وأفكار ترِد على الذهن ثم نقوم بكتابتها، لأنه لو كان الأمر كذلك سيكون جميع البشر تنويريين، فجميع البشر ترِد على عقولهم العشرات بل المئات من العبارات والأفكار ولكنهم لايجدون الوقت لكتابتها أو لا يبالون بذلك.

العبارة أو الفكرة التي ترد على الذهن إن لم تستند على نظرية علمية أو فلسفية، أو لم ينتج عنها إبداع فلسفي نظري على شكل بحث أو كتاب، أو تكون امتداد لنظرية سابقة ولكن بصورة مُطوَّرة وإضافات جديدة، فليست سوى حروف وكلمات مُجمَّعة بلا معنى حتى وإن توهَّم قائلها بأنها ذات معنى عميق!

التنوير هو أحد أهم أدوات الفلسفة وأهدافها، ولا يمكن أن يكون هناك تنوير بلا فلسفة، مما يعني ضرورة الولوج إلى عالم الفلسفة والغوص في أعماقه والتنقل بين بساتينه. بعد تلك الرحلة الطويلة ستلاحظ وجود مخزون معرفي ثقافي تود أن تبوح به وتطرحه إما على شكل مقالات أو بحوث أو كتب.

وليس كل إنسان يُؤخذ بقوله ويُعتد برأيه في التنوير، التنوير هو دور لا يقوم به سوى الفلاسفة والمختصين في الفلسفة سواءً كان ذلك بصورة أكاديمية أو عبر التعلم الذاتي.

الإشكالية في الفلسفة والثقافة أنه ليس هناك مقياس أو اختبارات يتبنَّاها أحد المراكز أو الهيئات أو المنظَّمات والتي من خلالها يتحدَّد من هو الفيلسوف أو المثقف، من يستحق هذا اللقب ومن لا يستحق، وهذهِ الثغرة استغلها الكثير من المتطفِّلين على الفلسفة والفكر فجعلوا من أنفسهم فلاسفة ومفكرين!
يعتقد البعض أنه بمجرد قراءته لعدة كتب وتأليفه لكتابين أو ثلاثة أو حتى عشرة وكتابته لعدة مقالات والتغريد على تويتر يجعل منه فيلسوفاً بامتياز!

المعيار في ظني هو الإبداع والتجديد، مالم يكن لديك نظرية أو مجموعة نظريات تم نشرها على شكل بحوث في مجلات فلسفية وعلمية محكمة ولها مكانتها المرموقة، عدا ذلك أنت مجرد مهتم أو كاتب فحسب، وهذا ليس تصنيفاً بقدر ماهو وصف، وهذا أيضاً لا يُنقص من قدرك بأي شكل من الأشكال، إنما وصف لك من خلال رؤية آثار النشاط الذي تتقنه وتزاوله في المرحلة الراهنة والمتناسب مع قدراتك الحالية في وقتها.

ولصياغة مشروع تنويري عربي قادم على أسس ومعايير لابد من توافر عدة شروط منها:

١.الاتفاق بين دور النشر في الوطن العربي على وضع لائحة موحَّدة تضم أهم المعايير اللازمة للكتب الفلسفية والثقافية عموماً، فلا يُسمح لأي شخص بطباعة كتابه إلا بعد أن يُعرَض على اللجنة التي تُقيِّم الكتاب في ضوء رأي المختصين، لأن المكتبة العربية كانت فقيرة بالمعرفة العلمية والفلسفية، وحالياً أصبحت متخمة بكتب ومؤلَّفات سطحية وساذجة أو مكررة بأساليب أخرى، أو على الأقل يتم وضع تصنيف للكتب، فمثلاً عندما لا يكون الكتاب قوياً في مادته يُصنَّف على أنه كذلك، وبهذا يعرف من يريد شراء هذا الكتاب إلى أي فئة ينتمي.

٢.يجب على الحكومات العربية دعم المفكرين الحقيقيين، يجب أن يبحثوا عنهم لأنهم بمثابة الكنز المفقود والذي لو وجدوه لوجدوا مصدر عزهم ونهضتهم، ويجب عليهم عدم الاحتفاء وتكريم إلا من يستحق فعلاً، لا لأنه مشهور ولديه حساب في تويتر، كل هذهِ ليست من مُقوِّمات المفكر، المفكر الحقيقي هو من يحمل هم وطنه ومجتمعه ويتألم لأجلهما ويكتب لأنه يتألم فنجد لنتاجه تميُّزاً وإبداعاً منقطع النظير.

٣.تأسيس هيئة خاصة بالمثقفين، ينضم لعضويتها من يستوفي الشروط والمعايير، وتحوي عدة درجات أو مراتب للتنافس والتشجيع على زيادة الإبداع والإنتاج، وتكون بمثابة المرجع للمثقفين وتدعمهم وتحميهم وتكون الصوت الخاص بهم، ويتبع لها أي نشاط أدبي ثقافي فلسفي، وألَّا يكون لأي هيئة أخرى السلطان عليها، بمعنى آخر تصبح مثل هيئة كبار العلماء في السعودية ومصر، ولا بأس من إقامة حوارات ثقافية أو تنسيق وتعاون بينهما، والجميع يخضع للدولة ويسير وفق قوانينها. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.