يبدو بأن صدمة نجاح الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في انتخابات الرئاسية الأمريكية لم تنتهي بعد بين النخبة الليبرالية في الولايات المتحدة، بل وفي باقي انحاءالعالم. فلم تستطع حتى الآن هذه النخبة استيعاب أسباب نجاح الرئيس الأمريكي المنتخب الجديد. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: لماذا لم تستطع هذه النخبة الليبرالية الاستيقاض من سباتها؟ ألم تلاحظ الغضب العالمي الشديد ضد سياسات العولمة التي أدت لتجمع الثراء في يد حفنة قليلة من الأفراد في العالم؟ الا يملك ثلاثة وستون ملياردير في العالم ما يملكه ثلاثة ونصف مليار مواطن على سطح كرتنا الأرضية؟ الا تملك عائلة أمريكية واحدة ما يملكه من ثراء ثلث الشعب الأمريكي؟ الم يملك 0.7% من الشعب الأمريكي أكثر من 40% من ثراء بلاده بينما يملك ما يقارب 70% ما يساوي 3%؟ فلماذا اختفت ديمقراطية عدالة توزيع الثراء بين أكثرية الطبقة المتوسطة الغربية؟ فهل لعالم العولمة دورا في ذلك؟ وهل التطبيقات الرئيس رونالد ريجن ومارجريت تشر،لتصغير دور الحكومة، وتخليص السوق الحرة من الأنظمة والقوانين، وتخصيص القطاع العام، دورا في ذلك؟ وهل أدى كل ذلك بغضب شعبي رافض لسياسات الايديولوجيات التقليدية، باحزابها، ومؤسساتها، وبرلماناتها، وخياراتها؟ وهل دفع هذا الغضب بالشعوب للتمرد، واختيار قيادات براغماتية من القطاع الخاص، تنتظر منها ان تحقق في قطاعات الدولة ما حققته في قطاع العولمة الخاص؟
للإجابة على هذه الأسئلة عزيزي القارئ سنتدارس معا مقالا لرجل سياسيبريطاني، جمع بين الفكر والصحافة، وبين السياسة والبرلمان، وبين الحكم كوزير، وبين مجلس اللوردات البريطاني، وهو اللورد ديفيد هول، فقد كتب مقالا بصحيفة اليابان تايمز في شهر نوفمبر الجاري، وبعنوان، محدودية سلطة ترامب، يقول فيه: "لو فكرت بان رئيس الولايات المتحدة هو اقوى شخص في العالم، فقلقك من رئاسة دونالد ترامب مقبولة. ولوأنك تعتقد بأن أمريكا الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وبأننا نعيش في عصر القوى العظمى فاستمر في قلقك. ولو تعتقد بأن أمريكا الشرطي الوحيد في العالم، وإذا لم تتدخل في الشرق الأوسط، فسينتهي في فوضى عارمة، فاستمر في قلقك أكثر. ولكن لنفترض لم يعد العالم كما تصورته، ولنفترص بأن الولايات المتحدة اقتصاد ديناميكي إبداعي ضخم، وتحتاج أن تشارك سلطتها مع شبكة من مجموعة عالمية فاعلة، لها مصالحها، وبأن مصروفاتها الدفاعية سبعة اضعاف أعلى حلفائها، كما يبدو بأنها لم تستطع ان تحقق الاتفاق العالمي. ولنفترض بأن الولايات المتحدة متشابكة في عمق النظام العولمي، وبأنها محدودة في تصرفاتها وسلوكها المستقل، وكأي بلد آخر. ولنفترض بأن سلطات الرئاسة الأمريكية صممت، بحيث تحدد سلطات الرئيس بمؤسسات المراقبة والمحاسبة، والتي دعمت بسلطة شبكات الإنترنت. فتصبح الصورة تماما مختلفة بعد هذه الافتراضات، بل ستبدو وكأنها أقرب من الواقع بدل الصورة الخيالية لأميركا في عقولنا، كالقوة الوحيدة المراقبة والحارسة للعالم الحر. ولسبب واحد، بأن الولايات المتحدة بضخامة قوتها العسكرية، لم تنتصر في أي حرب منذ عام 1945، إلا في حرب الكويت، التي أخرجت صدام من الكويت. وفي الوقت الذي يركز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامبعلى التحديات الأمريكية الداخلية، في الوقت الذي يريد ان يتخلص من داعش على سطح الأرض، يريد في نفس الوقت أن تتحمل كل دولة وكل منطقة مصاريف دفاعاتها، وطبعا هذه ليست سياسة انعزالية، وبالتأكيد ليست لغة استعمارية للسيطرة على العالم. وكل ذلك يعني بأنه مع أهمية القيادة الأمريكية للعالم، ولكنها ليست القضية المحورية الحيوية للاستقرار والأمان العالمي، التي تصورها البعض.
فهذا العالم الذي نعيشه اليوم هو العالم العولمي الجديد، الذي تحركت فيه مركزية السلطة الاقتصادية والسياسية، بل انها مستمرة في الحركة، وبعيد عن منطقة المحيط الأطلسي، بل ومتوجهة نحو منطقة المحيط الهندي والباسيفيكي. ويعني كل ذلك بأن على جميع الدول ان تنظر لأميركا الجديدة، برئاسة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، كشريك وليس كحامي الحماة المنفرد بجبروته. فقد كان البريطانيون يحبون التحدث عن علاقتهم الخاصة مع الولايات المتحدة، ولكن تغير الوضع اليوم. فعالم العولمة الجديد حول حدة الترابط بين الدول والمصالح والشعوب من علاقة خاصة إلى علاقة عولمية شاملة، بجميع الشبكات والحلفاء والحلقات، التي توفر حماية اكثر ضد الإرهاب، والمخدرات،ونقص المياه، وفقدان أمن الطاقة والغذاء، والفساد، والتهرب من دفع الضرائب، والأمراض الوبائية، وبالتأكيد العمل ضد شبكات الجريمة، التي تهدد العالم الحر. وهناك عامل آخريجب ان يهدئ الرعب الذي خلقته رئاسة ترامب، وخاصة في أوروبا، فقوة السلطة تبتعد اليوم عن المؤسسات الحكومية، وأجهزتها الداعمة. بل انتصار الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، المستقل على ايديولوجيات الأحزاب التقليدية كالديمقراطيين والجمهوريين، بل عن جميع مؤسسات واشنطن التقليدية، هو مثل صريح لذلك. فبوضع الشعوب ببساطة في شبكة تواصل في كل مكان، سيكون لديها قوة لإضعاف الحكومات التقليدية، وهو الذي يحدث اليوم، وهذه هي "الشعوبية" (populism)، التي نتحدث عنها، وهي كلمة نتجت من كلمة الشعوب وقوتها، ولكنها شعوبية جديدة غير تقليدية، ولكنها بقوة تحدد التكنولوجية جماحها. فقد أصبحت عقول واضعي السياسات الخارجية كلوحة الشطرنج، لعبة المفاضلة والمساواة بين الدول، ولكن في عالمنا الرقمي الجديد تبرز منظمات "عولمية" بين الدول، لتصبح دولية، بل هي أيضا مثل إقليمي لمجموعات عديدة من الدول. والنتيجة ستكون اليوم، بأنه هناك قوى دولية فاعلة، أكبر بكثير من الرئيس دونالد ترامبوإدارته. ولنتذكر أيضا بان واشنطن لم تعد مركز القوة الأرضية، كما كانت سابقا. وبنفس "الشعوبية" التي أوصلت الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، ستقي هذه "الشعوبية"من أن يتحول السيد دولة الرئيس دونالد تراب، إلى خطر ضدنا جميعا. وقد كان من المفروض أن تتوقف الشعوب والدول الحكيمة عن اعتمادها على أمريكا، في امنها ورخائها، منذ زمن بعيد، كما كان عليها أن تطور دفاعاتها ضد تحديات اليوم الحقيقية، وخاصة بان أكثر من 80% من الشعب الأمريكي لا يريدون أن تتدخل حكومته في حروب خارجية. كما على الحكومات الحكيمة أن تضيع وقت اقل في اللعب على لوحة الشطرنج الدولية القديمة، بل عليها أن توفر وقت أكثر للتعلم للعمل مع مراكز القوىالجديدة، والتي مكنتها التكنولوجية والمعلومة، والتي تشمل إمبراطوريات عصر الشبكات الاجتماعية، كالفيسبوك، التي تجمع سكان أكثر من سكان الصين، بل بالإضافة للممنظمات الشعبية التي لا يمكن عدها، والمجموعات التي حصلت على قوة جديدة،وتستطيع ان تؤثر على الحدث وتحافظ على مصالح الناس. فقد استبدلت الحواجز القديمة ضد الفوضى والدمار ألاجتماعي، التي كان يستخدمها ببساطة أي قائد جديد قوي للرجوع إلى الدكتاتورية، بشبكات التواصل، التي قوت الشعوب، وواصلتها ببعضها البعض. وليحافظ الرئيس ترامب على سلطته، عليه ان يشاركها مع الآخرين، ولكي يحقق الثراء أيضا، عليه ان ينشر الثراء على الجميع، ولكي يحافظ على التأثير الأمريكي على العالم، عليه ان يشارك السياسات والسلطة مع باقي دول العالم. فقد لا تكون نتيجة الانتخابات الأمريكية سيئة، كما تصورها البعض، حينما نفكر فيها بعمق، كما إنها ليست سببا للقلق والإثارة للحديث عن كارثة عالمية."
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستوعب المعارضة الشرق أوسطية الدرس الأمريكي الجديد، لتنظم أوضاعها في عالم عولمة البراغماتية الجديدة، الذي استوعبته تجربة الانتخابات الأمريكية الأخيرة بجدارة، أم ستستمر أحزابها بأيديولوجياتها التقليدية الطوباوية الحالمة، التي لم تجلب إلى شعوب الشرق الأوسط الا التخلف والعنف والدمار؟ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان