محمد الرميحي
برحيل أحمد أبو دهمان الأسبوع الماضي، تخسر الثقافة العربية صوتاً سردياً نادراً، لم يكن من الأصوات الصاخبة التي تبحث عن حضور سريع، بل من الأصوات الهادئة التي تترك أثرها ببطء وعمق، كان كاتباً يعرف أن الأدب ليس استعراضاً لغوياً، ولا سباقاً نحو الأضواء، بل فعل وفاء للذاكرة، وإنصاف لحيوات بسيطة عاشت بعيداً عن مركز الحداثة وضجيج المدن. كانت أطروحته للدكتوراه (القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية) وكتب عموداً أسبوعياً في جريدة الرياض تحت عنوان (كلام الليل)، إلا أن شهرته كروائي جاءت مع رواية الحزام، كتبها بالفرنسية (أول سعودي يكتب عملاً بالفرنسية حسب علمي) وترجمت إلى لغات عدة.
لم يكن أبو دهمان كاتب قرية بالمعنى المكاني الضيق، بل كتب عن القرية وعلاقات الجماعة فيها بوصفها معنى إنسانياً شاملاً، معنى الطفولة الأولى، والانتماء الغريزي، واليقين البسيط، والخوف الأول، والذاكرة التي لا تموت مهما ابتعد الجسد أو طال المنفى. كتب الحزام عن قريته وهو في باريس، لكنه لم يكتبها بعين المستشرق، ولا ببرود المنفي، بل بعاطفة من يعرف أن المسافة لا تمحو الذاكرة، بل تجعلها أكثر حضوراً ووضوحاً.
في روايته الأشهر «الحزام»، التي صدرت أولاً بالفرنسية ثم تُرجمت إلى العربية، أنجز أحمد أبودهمان عملاً إبداعياً فريداً، لا يقوم على حبكة تقليدية أو تصاعد درامي صاخب، بل على استعادة عالم كامل، كاد أن يغيب عن الذاكرة العربية المكتوبة. القرية في الرواية ليست خلفية للأحداث، بل كائن حي: الجبل، الحجر، المطر، الصمت، الخوف، الطقوس، الدين الشعبي، وسلطة الجماعة التي تسبق الفرد وتعلوه، مرحلة تؤرخ لانتقال سريع في المجتمع.
ما يميز هذه الرواية أنها لا تُدين الماضي ولا تُقدسه، لا تقع في فخ الرومانسية الريفية التي ترى في الماضي جنة مفقودة كما تعودنا في أعمال القرية العربية، ولا في خطاب التحديث المتعجل الذي يختزل العالم القديم في المحافظة والتخلف. الرواية تنظر إلى ذلك العالم كما هو، قاسٍ أحياناً، حميمي أحياناً أخرى، متماسكاً في بنيته الداخلية، لكنه محدود الأفق، تحكمه الأعراف شبه الجامدة، أكثر مما تحكمه الأسئلة. هذه النظرة المتوازنة هي سر قوة الرواية وبقائها.
كتب أبو دهمان عن الطفولة لا بوصفها براءة مطلقة، بل بوصفها زمن الاكتشاف والخوف معاً، الطفل في «قرية أبو دهمان» يتعلم مبكراً معنى السلطة، وفضيلة الصمت، ومعنى أن الجماعة قد تكون حضناً دافئاً، وقد تكون قيداً خانقاً. والدين حاضر بقوة، لكن بوصفه ديناً شعبياً، ممتزجاً بالخرافة والأسطورة، يطمئن الناس بقدر ما يضبط سلوكهم.
اللافت في تجربة أحمد أبو دهمان أن الكتابة بالفرنسية لم تكن قطيعة مع الذات، بل وسيلة لإنقاذها من النسيان. اللغة الأخرى وفرت مسافة تأملية سمحت بإعادة بناء الذاكرة بهدوء، وبنظرة نقدية، لا تتوفر دائماً لمن يكتب من الداخل. ولذلك جاءت روايته إنسانية في جوهرها، محلية في روحها، وصادقة في نبرتها.
لم ألتقِ أحمد أبو دهمان وجهاً لوجه، لكن بيننا تواصل إنساني راقٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كان يقرأ أحياناً بعض ما أكتب، ويبعث بتعليق مقتضب، أو ملاحظة دافئة، تدل على تواضع الكاتب الحقيقي، وحرصه على الكلمة أينما وُجدت. بهذا المعنى، كان حاضراً بأدبه وأخلاقه معاً. برحيله نفقد كاتباً لم يُكثر من الإنتاج، لكنه أحسن الاختيار، وترك لنا نصاً طويلاً واحداً مميزاً يكفي ليشهد على أن الأدب الحقيقي لا يُقاس بعدد الكتب، بل بعمق الأثر. بقيت قريته حية في كتابه، ولدى قرائه القادمين، وتلك في الأدب أعلى درجات الخلود.

