: آخر تحديث

عن امتحان السيادة اليومي في لبنان!

0
0
0

تؤكد التَّطوراتُ والأحداث السياسيّة الأخيرة في لبنانَ أنَّ البلادَ تمرُّ بمنعطف خطير وغير مسبوق ولعلَّه أشدُ حراجة ودقة من حقبة الحرب الأهلية (1975 - 1990) التي ارتفعت فيها المتاريس، وانقسم اللبنانيون في الاحتراب بين التأثيرات الخارجية وعوامل التفجير الداخلية. التصعيد الخطير الذي شهدته المنطقة من الحرب الإسرائيليّة على غزة، إلى الحرب على لبنان، وصولاً إلى الاشتباك الإسرائيلي - الإيراني المباشر أعادَ خلط الأوراق بشكل كبير في الإقليم برمته، وها هي معالم المرحلة الجديدة ترتسم بالدم والنار اللذين يفعلان فعلهما بعيداً عن التفاوض الذي لم يسلك طريقه بعد، أقله لبنانياً.

وإذا كان خيار التفاوض (أقله غير المباشر) غير متاح بالنسبة للبنان الذي تُنتهك سيادته براً وبحراً وجواً بصورة يومية، خصوصاً مع تعثر عمل لجنة «المكانيزم» المولجة الإشراف على تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 نتيجة عدم اكتراث إسرائيل لعملها وإشاحة النظر عن وجودها؛ فإنَّ على اللبنانيين تقع مسؤولية البحث عن سبل مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقف والمرشحة للتصعيد والتوسع في أي لحظة دون رادع سياسي أو أخلاقي أو قانوني.

وحالة الانقسام اللبناني الراهن، رغم جذورها التاريخية، تنطوي على المزيد من المخاطر كون التشرذم يعمّق الخلافات التي لا تدور حول قضايا تفصيلية بسيطة، بل تتصل بخيارات استراتيجية كبرى لها تأثيراتها على مستقبل لبنان ووجوده. والأخطر أنَّ هذا الانقسام يأتي في لحظة تتراكم فيها مشاعر الغضب والأسى عند شريحة واسعة من اللبنانيين الذين فقدوا بيوتهم في الحرب الأخيرة وهي البيوت التي لم يُضرب فيها مسمار واحد على طريق إعادة إعمارها، وليس هناك ما يوحي بأنها ستشيّد مجدداً عمّا قريب.

وينقسم المشهد السوريالي اللبناني بين حدين: بين خطاب يدعو للتمسك بالسلاح، لا بل لإعادة التسلح والتحضر لمواجهة انتفت عناصر قوتها وسقطت نظرياتها السابقة بضربة قاسية، إن لم تكن قاضية؛ وبين خطاب مقابل لا يقيم أي وزن للاعتداءات الإسرائيلية، ويشيح النظر عنها كأنها غير موجودة، أو أنها تطال أجزاء أخرى من الوطن لا يكترث لها أو لا تعنيه بشيء.

ولعل المطلوب في هذه اللحظة اللبنانية الحرجة، الإقلاع عن استيلاد نظريات فات عليها الزمن وإعادة استنباط آليات مواجهة سقطت في التجربة، والتوقف - في المقابل - عن التطبيل لإسرائيل وسلوكياتها الفجة في لبنان وصرف النظر عن اعتداءاتها، والتوقف أيضاً عن استعداء شريحة لبنانية فقدت بيوتها وأملاكها وأرزاقها وهي غير قادرة حتى على قطاف شتول التبغ وحبات الزيتون.

هذان الخطابان المتناقضان يصبّان في التهلكة، ويشرذمان الواقع اللبناني بشكل أكثر عمقاً ويطرحان مخاطر جدية على فكرة وجود لبنان. فأكثر ما يخدم الهجمة الخارجية على لبنان الانقسامات الداخلية الآخذة في التوسع. الأكيد أن ثمة مجازفة في مواصلة الخطاب العالي النبرة دون توفير مقومات جدية وبديلة له عن تلك التي سقطت في الحرب الأخيرة. وإذا كان ليس مقبولاً رفع خطاب الاستسلام والانهزام، فمن غير المقبول أيضاً تعريض البلاد لمخاطر جديدة.

بين هذا وذاك، يقبع لبنان في دائرة الانتظار في الوقت الذي تتقدم فيه الدول المحيطة الأخرى نحو مسارات جديدة، ولو أن معالمها لم تتضح بعد، إلا أنها تشي بوضوح تام أن لبنان لن يكون قادراً على اللحاق بالركب الإقليمي المستجد. وهذا ما يتطلب من اللبنانيين الذهاب نحو حوار وطني، غير فولكلوري، حول السبل الأمثل للتعامل مع الواقع الخطير الذي يمر به لبنان راهناً.

توحيد الموقف الداخلي، رغم صعوبته، يبقى الخيار الوحيد الذي يفترض سلوكه لتلافي المزيد من الخسائر، وهو الذي يمكن من خلاله مخاطبة العالم بلغة واحدة. كل الخيارات الأخرى تتساقط يومياً أمام امتحان السيادة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد