الأحداث الكبرى في التاريخ قد تتكرر شكلاً، غير أن جوهرها يختلف، المرة الأولى مأساة حقيقية، والمرة الثانية محاكاة هزلية، وهي عبارة شاعت في القرن التاسع عشر، وتعتبر إنذاراً لمن يحاول إعادة الماضي دون أن يفهم شروطه المتغيرة، فحين تغيب قراءة التاريخ تتحول القوة إلى غطرسة، والرغبة في التوسع إلى وهم.
في لحظة غرور القوة وفائض المحاربين، يتخيل بعضهم أن التاريخ يمكن أن يستعاد، وأن الخرائط قابلة لإعادة الرسم متى شاءوا، ويتناسون أن الجغرافيا الضيقة لا تحتمل المناورة الواسعة، وأن ما يمكن أن تستكمله ترسانة من السلاح لا يعوض حدود المكان، فالإمكانية الواقعية تبقى ضيقة مهما اتسعت العواطف.
حين عرض نتنياهو خريطة تتجاوز مساحة إسرائيل الحالية أثناء خطابه في الأمم المتحدة عام 2023، بدا مؤمناً بأن الجغرافيا يمكن أن تعاد صياغتها. كما تعاد صياغة الخطابات، امتدت الخريطة إلى ما بعد نهر الأردن، وشملت أجزاء من سوريا ولبنان وغزة وسيناء، فأثارت انتقادات عربية ودولية واسعة، واضطر مسؤولون غربيون إلى التأكيد أن حدود ما قبل 1967 هي الأساس لأي تسوية سياسية ممكنة، غير أن نتنياهو كان يتحدث بلغة من يعتقد أن التاريخ انتهى لصالحه، وأن اللحظة سانحة لتوسيع الهوية، من مشروع دفاعي إلى مشروع هيمنة، فكرة طافت حول رأسه بلا كوابح، يعززها خيال ديني يرى الأرض الموعودة تمتد من الفرات إلى النيل.
تستدعي هذه الرؤية أمثلة من التاريخ، فالمغول انطلقوا من هضبة منغوليا في القرن الثالث عشر، فاجتاحوا نصف العالم المعروف، والإسكندر المقدوني خرج من جزر يونانية صغيرة فاخترق آسيا حتى الهند، وروما تحولت من قرية على ضفاف نهر التيبر إلى إمبراطورية البحر المتوسط، وبريطانيا التي بدأت من جزيرة صغيرة امتدت حتى قيل إنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والمهاجرون الأوروبيون أسسوا عالماً جديداً في أميركا، فصار لهم نفوذ تجاوز القارات.
تغري هذه النماذج أي قائد يرى نفسه نقطة البداية، غير أن الفارق بين الأزمنة حاسم، فالإسكندر لم يعرف نظاماً دولياً يراقب، وروما لم تواجه رأياً عاماً عالمياً، أما اليوم فكل حرب تترجم إلى ضغوط اقتصادية ودبلوماسية، فالمناورة الواسعة في مساحة ضيقة مغامرة تفوق الحساب العسكري، وتستنزف الحلفاء قبل الأعداء.
حين وصف نتنياهو إسرائيل بأنها إسبرطة الحديثة في مقابلة عام 2024، كان يؤكد إيمانه بدولة صغيرة تبقى حية بالحرب الدائمة، فإسبرطة لم تبقَ إلا بالانضباط والتسلح، وحين توقفت حروبها سقطت، في هذه الصورة اعتراف ضمني بأن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتغيير قواعد الأرض الضيقة، وأن التوقف عنها يعني النهاية.
المجتمع الإسرائيلي يعيش توتراً بين فائض السلاح وضيق الأرض، بين اقتصاد تكنولوجي متقدم وعقيدة أمنية مغلقة، وكل هدنة في غزة تبدو كإعاقة لمشروع المناورة، فالتوسع هناك جزء من الهوية السياسية وليس محض خطة عسكرية، ومع ذلك ترتفع كوابح عديدة، فالمجتمع الدولي بدأ يواجه حرجاً أخلاقياً مع استمرار الإبادة في غزة، حيث وثّقت الأمم المتحدة مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وأعلنت المحكمة الجنائية عن مذكرات تحقيق، وتصاعدت أصوات في واشنطن تحذر من انزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة، وهو ما يجعل مشروع التوسع بالقوة مغامرة مكلفة تهدد التوازن القائم.
إلى جانب ذلك، تتزايد الكوابح الداخلية، فالانقسام السياسي بين اليمين الديني والتيار الأمني التقليدي يتعمق، وثقة الجمهور في القيادة تراجعت بعد الحرب الطويلة، والعزلة الدولية تتسع، حتى إن بعض الجنرالات دعوا إلى وقف النزف الاستراتيجي وإعادة النظر في المشروع الأمني كله.
تبدو أحلام نتنياهو بمحاكاة إمبراطوريات الماضي مصطدمة بواقع نظام دولي لا يسمح بالتوسع، فالمجال الحيوي في زمننا يكتسب بالاقتصاد والشرعية والتكنولوجيا، وحين يحاول أحدهم إعادة التاريخ متجاهلاً أدوات الحاضر، يتحول مشروعه إلى عبء على العالم.
توقف الحرب في غزة يعرقل المناورة الواسعة، غير أن الفكرة تظل كامنة في البنية العقائدية والسياسية الإسرائيلية، وقد تعود في شكل جولة أشد ضراوة، حين تتوفر لها لحظة مناسبة، وهي لحظة إن جاءت لن تغير وجه العالم، كما يتخيل أصحابها، إنما ستدفعه إلى حافة الهاوية.
فالتاريخ لا يعود بنفسه، وإن عاد بصورة مشوهة، فإنه يكرر المأساة في هيئة مهزلة تمسك برقبة العالم حتى ينكسر معها.