: آخر تحديث

ستارمر والتنين... لعبة كلمات أم مناورة مخابرات؟

3
2
2

قضية الباحثَين البريطانيين المتهمَين بالتجسس للصين تطورت إلى مسرحية سياسية، بطلها رئيس الوزراء كير ستارمر، في انتقائه لألفاظ قد تحوّل انتباه المتفرج عن الأدوار الأخرى. البداية في ربيع 2023 بالقبض على الباحثين في وستمنستر، أحدهما عمل سابقاً في مركز أبحاث في بكين، والآخر في مكتب أليشا كيرنز، وقت كانت رئيسة للجنة الشؤون الخارجية (2022 - 2024)، وبين يديه معلومات حساسة. ووجّهت إليهما التهمة رسمياً في ربيع 2024 أثناء حكم المحافظين.

النيابة العامة قرّرت الشهر المضي سحب القضية، لعدم كفاية أدلة تقنع المحلفين بالتهمة، لأن الصين لم تُصنَّف كـ«تهديد أمني» وقت وقوع الأحداث.

ستارمر في دفاعه عن قرار النيابة ينفي أن تكون حكومته وراءه، وحمّل المسؤولية لحكومة المحافظين السابقة، زاعماً أن تعريفهم للصين لم يكن «تهديداً»، بل «تحدياً استراتيجياً». ستارمر محامٍ يجيد المرافعة بكلام ظاهره قانونيّ وجوهره محاولة لتفادي الإحراج أمام بكين.

وزير خارجية المحافظين وقتها، جيمس كليفرلي، طلب نقطة نظام خلال جلسة المساءلة الأسبوعية يوم الأربعاء لرئيس الوزراء، وصحّح لستارمر اقتباسه المغلوط، مؤكداً أن حكومته وقتها رفضت اختزال الموقف في كلمة واحدة، دون أن تنفي وجود التهديد من الصين. وفي الجلسة نفسها، شنّت زعيمة المعارضة كيمي بيدنوك هجوماً مباشراً على ستارمر، متهمةً إياه بانتقاء عباراته بشكل مضلل، لتفادي الاعتراف بأن الصين كانت ولا تزال بالفعل مصدر خطر.

المحافظون يقولون إن موقفهم كان واضحاً، والمخابرات البريطانية كانت تتابع نشاطات التجسس الصينية يومياً. الموقف أكده السير كين مكالوم، رئيس المخابرات الداخلية (MI5) في محاضرته السنوية يوم الخميس، حين قال إن الصين تمثل «تهديداً يومياً» للأمن القومي، إلى جانب روسيا وإيران. وذكر القلق من مشروع السفارة الصينية الجديدة في موقع دار صكّ النقود القديمة، في قلب مركز لندن المالي حيث تمر كابلات الإنترنت والبنية التحتية الحساسة، ما قد يمكنهم من التجسس عليها.

ما أثار الريبة لقاء مستشار الأمن القومي لستارمر، جوناثان باول، بالمدعي العام (الذي يوجه النيابة) قبل شهر من سحب القضية. وبضغوط الصحافة، ونواب البرلمان، نشرت الحكومة 3 شهادات أرسلها نائب مستشار الأمن القومي للنيابة، لكن المفاجأة أن الفقرات الختامية نسخت من مانيفستو العمال الانتخابي للعلاقة مع الصين: «سنتعاون حين نستطيع، ونتنافس حين نحتاج، ونتحدى حين يجب». دعاية انتخابية، لا شهادة أمنية.

النواب طالبوا بالكشف عن كل المراسلات. حتى من داخل حزب العمال، مثل إيميلي ثورنبري، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية، وهي محامية، رأت أن النيابة أخطأت بعدم تقديم القضية والاجتهاد لإقناع المحلفين أثناء نظرها. والآن، لجنة الأمن القومي في البرلمان أعلنت فتح تحقيق رسمي، في محاولة لفهم ما جرى خلف الكواليس.

السؤال الذي يتكرر؛ لماذا يحاول ستارمر تبرير سحب القضية؟ هل يخشى إغضاب الصين؟

أم أنه يحاول الحفاظ على علاقات تجارية؟

فالصين اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبريطانيا تعتمد عليها في كل شيء، من الإلكترونيات إلى الأدوية. نواب البرلمان يقولون؛ الأمن القومي لا يُباع ولا يُشترى.

ستارمر يحاول أن يُحمِّل المحافظين المسؤولية، باتهامهم بعدم تصنيف الصين كتهديد، بعكس ما جاء في الوثائق الحكومية وتحذير المخابرات. تقرير حكومته هذا الصيف عن الأمن القومي لا يشير للصين كتهديد، ولذا ترك القضية تُسحب في هدوء.

ما حدث ليس مجرد قضية قانونية، بل اختبار للثقة. هل الحكومة مستعدة لمواجهة التهديدات التي أكدتها المخابرات بدلاً من التلاعب بالألفاظ؟ وهل ستارمر يقود فعلاً، أم يُداوِر؟ الناخب والرأي العام يريدون إجابات واضحة، لا شعارات انتخابية. والنيابة تستحق دعماً حقيقياً، لا لقاءات خلف الأبواب المغلقة. تعاند ستارمر في توضيح الأمور يثير قلق الناس، ليس من بكين فقط، بل من القيادة في لندن.

القضية أصبحت سياسية، رغم إغلاقها قضائياً. لجنة برلمانية ستفتح تحقيقاً، بوريس جونسون استقال من منصبه رئيساً للوزراء قبل عامين «لتضليل البرلمان» بشأن حفلة لموظفيه، لا قضية أمن قومي. الإعلام يكشف الأسرار، والمعارضة تهاجم، وأعضاء حزب العمال، ونواب البنشات الخلفية، لن يتركوا ستارمر يرتاح. الأسابيع المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً، ليس لمدى شفافية الحكومة فقط، بل لقدرة رئيس الوزراء على تحمّل حرارة المواجهة، إذ سيظل في قبضة متلازمة الصين... حتى إشعارٍ آخر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد