ها هو من جديد. الرتابة نفسها. تعلن قدومه الطيورُ الحائرة في أمرها. تبحث بين الأغصان وفي بقايا الثمار عن المزيد من الصيف الزائل. لكن الزوال يتسارع على غير هدى. وفي الكثير من الفوضى. وتتزاحم علامات الخريف في الانتشار. تقصر ساعات النهار، وتسرع الشمس في الغياب. وأطفال المدرسة حزانى لأن البرد يدب في أرجلهم. وأمهاتهم لم يكملن حياكة الجوارب الصوفية بعد. تأخرن في تدبير موسم الزيتون، ومؤونة الشتاء. يعودون إلى المدرسة وهم أكبر عاماً من العام الماضي.
بعضهم نبت على شاربه شعر طفولي، وخشنت أوتار حنجرته الصغيرة. وبعضهم جاء ومعه كتب السنة الماضية، لأن والده شغله عن الدراسة بالعمل، بل عمل أمه في الحقول، تبحث عما يؤكل من الخضار البرية.
على نحو عام، ثمة مسحة من الكآبة تشبه تلك الكآبة التي كانت تحيط بمنزل أنطون تشيكوف في قرية كاوتشوكوي. لم يتغير شيء. مدرّس القرية هو الأفقر. دائماً شارد الذهن، يخاف من فقر التقاعد، وعزلة الشيخوخة. وعندما يحاول أن يكمل ابتسامته يمد الخوف من المجهول يده ويطبق بها على فمه. إنه الرجل الأضعف في القرية. أضعف من الشرطي، ومن المختار، ومن الناطور، الذي نقل كل سنة الأرزاق الواقعة في حراسة عصاه الطويلة.
كان تشيكوف، وهو المصاب بمرض السل القاتل، من كثرة الغبار أمام منزله الواقع على الطريق العام في بلاد القرم، حيث يتوسل شيئاً من الدفء، ومثله مثل جريح الأدباء الروس، كان يتوجس من البرد. لكن الأكثر تألماً من اقتراب الصقيع كان عملاقهم ليو تولستوي.
ليو العظيم كان مثل الأطفال يجلس حول المدفأة وهو يعد الأيام المتبقية لحلول شهر أبريل (نيسان). حتى مارس (آذار) كان يرى فيه شيئاً من الدفء.
سوف يقفل باب المدرسة العالي على الأولاد. وتقفر الساحة إلا من مارة الاضطرار. وفي وادي الصمت العميق، لا يعود يُسمع سوى «المعلم رفول» يردد درس الصرف والنحو، والجميع يردد بعده: أخوات كان.