تغريد إبراهيم الطاسان
في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم الرقمي، ومع ما أفرزته وسائل الإعلام الجديدة من مواقع ومنصات ذات فضاء واسع ومفتوح للكلمة والصورة والرأي، يبرز سؤال جوهري: كيف نوازن بين حرية التعبير وحماية المجتمع من الانفلات؟
يأتي القرار الأخير للهيئة العامة لتنظيم الإعلام ليقدم إجابة عملية وحاسمة عن هذا السؤال، مؤكدًا أن الحرية لا يمكن أن تنفصل عن المسؤولية، وأن الإعلام بكل فروعه لا يُقاس فقط بمدى اتساع منصاته، بل بمدى انضباطه في حماية الإنسان وصون قيم المجتمع.
هذا القرار يحمل في طياته رسالة واضحة مفادها أن كرامة الفرد وحقوقه خط أحمر، وأن حماية النسيج الاجتماعي ليست ترفًا تنظيميًا بل واجب وطني.
لقد أدركت الجهات المعنية أن الإعلام بما يحمله من تأثير مباشر وسريع قد يصبح سلاحًا ذا حدين، فإذا غاب الانضباط تحوّل إلى أداة للإضرار بالمجتمع وتشويه الحقائق، أما إذا وُضع في إطار من المسؤولية فإنه ينهض بدور وطني رائد يليق بمكانة المملكة وتطلعاتها.
من اللافت أن القرار لم يأت ليضيّق على حرية التعبير، بل ليحفظ لها معناها الحقيقي، فالتعبير المسؤول هو الذي يثري الحوار ويعزز القيم ويحافظ على تماسك المجتمع.
أما الانفلات، فهو ليس حرية وإنما فوضى تسيء للأفراد وتمس خصوصيات البيوت، وتجرّد الفضاء العام من الحياء الذي يميز المجتمعات الراقية.
وحين يؤكد القرار على أهمية ضبط السلوك الإعلامي، فإنه يعيد الاعتبار لتلك المساحة الإنسانية التي تحمي المجتمع من الابتذال وتضمن أن يظل الإعلام أداة للبناء لا للهدم.
ومن بين أبرز ما يلفت الانتباه هو العناية الخاصة بالطفل، حيث يشدد القرار على عدم زجه في هذا العالم المزدحم بالضغوط والجدل. فالطفل بحاجة إلى بيئة آمنة تحافظ على براءته وتحميه من الاستغلال أو الاستخدام في سياقات لا تناسب مرحلته العمرية. بهذا المعنى، لا يحفظ القرار حقوق الكبار وحدهم، بل يؤسس لمستقبل أكثر أمانًا للأجيال القادمة، ويؤكد أن بناء إنسان متوازن يبدأ من حماية طفولته.
ولا يمكن إغفال ما يحمله القرار من بعد يتعلق بضبط الحياء العام، إذ إن المجتمع الذي يحرص على صيانة قيمه وذوقه العام هو مجتمع أكثر تماسكًا وأقوى في مواجهة التحديات. فالحياء ليس مجرد قيمة فردية، بل هو سياج يحمي الذوق العام ويعكس هوية المجتمع. ومن هنا، فإن التأكيد على منع الممارسات التي تخدش هذه القيم يمثل ضمانة لاستمرار التوازن بين الانفتاح على العالم والتمسك بالأصالة.
إن وجود منظومة دقيقة للرصد والمتابعة يبعث برسالة طمأنينة لكل مواطن ومقيم، مفادها أن ما يُنشر ويُبث لا يمر مرور الكرام، بل يخضع لرقابة واعية تحفظ الحقوق وتردع التجاوزات.
هذه المنظومة لا تعني التضييق أو الحجر، وإنما تعني أن المجتمع محمي من أي محتوى مسيء أو مضلل، وأن المؤسسات المعنية حاضرة لرصد كل شيء وضمان ألا يتحول الفضاء الإعلامي إلى مساحة للابتزاز أو التحريض أو الإساءة.
القرار إذًا ليس مجرد لائحة إجرائية، بل هو خطوة استراتيجية تتسق مع الرؤية الوطنية الأشمل التي تسعى إلى بناء مجتمع متماسك قادر على التفاعل الإيجابي مع التحولات العالمية.
إنه يعكس صورة المملكة كدولة توازن بين الانفتاح والإصلاح من جهة، والحزم في حماية القيم والحقوق من جهة أخرى. وما يجعل هذا القرار محوريًا هو أنه يضع الإعلام في موقعه الصحيح: قوة للبناء والتنمية، لا ساحة للفوضى والانفلات.
لقد آن للإعلام بكل منصاته أن يكون مرآة صادقة لقيم المجتمع وطموحاته، لا منصة عابرة للمخالفات والتجاوزات. والقرار الأخير يجسد هذه الرؤية بوضوح، ويؤكد أن المملكة تمضي بثقة نحو مرحلة جديدة من النضج المؤسسي، حيث تُصان الكرامة، وتُحفظ الخصوصية، ويُحمى الحياء العام، ويُترك للإبداع المسؤول أن يعبر عن نفسه دون خوف أو إساءة. وهكذا يتحقق التوازن المنشود بين الحرية والانضباط، بين التعبير والاحترام، وبين الطموح والالتزام.