: آخر تحديث

«القاعدة» ومحاولة تحدّي الخرائط

4
2
3

يبدو للبعض أن التغيّرات الشكليّة والسريعة في بعض الدول ربما تُحجّم من امتداد التنظيمات الأصولية؛ وهذا مناقض تماماً لسيرورة التنظيمات ولطبيعة حركتها وطرق إعادة تموضعها لكل مَن عرفها ودرَسها.

منذ ثلاث سنواتٍ خفَتَ صوت «تنظيم القاعدة» مع جلّ أفرعه في الإقليم. غياب مُريب معناه أن ثمة ظهوراً مزمعاً في وقتٍ محدد وبصيغةٍ مختلفةٍ، وربما بطريقةٍ غير تقليدية ولا معتادة.

تعرف التنظيمات الأصولية، وعلى رأسها «تنظيم القاعدة»، أن التغيّرات السياسية تُجبرها على أخذ مساراتٍ هيكلية أخرى غير التي كانت، وهذا معروفٌ منذ نشأة «التنظيم»، إذ يغيّر من تكتيكاته تبعاً للظرف الإقليمي، ويُخاتل بالخطاب تبعاً لتغيّر أمزجة الشعوب، إنه يستهدف أجيالاً نشأت بأفكارٍ واهتماماتٍ ومجالاتٍ غير الجيل التقليدي الذي استطاع استقطابه وتجنيده قبل أربعة عقود.

في مثل هذه الظروف، «تنظيم القاعدة» لا يستسلم، بل يعيد تموضعه في جيوبٍ أخرى، أقل كلفة ومخاطرةً، وبمناطق أكثر استدامةً وأمناً.

هذا ما تؤكده دراسة مفيدة، اطلعتُ عليها مؤخراً، بعنوان «طموحات أطلسية: تنظيم القاعدة يتقدم نحو موريتانيا والسنغال» للأستاذة زينب مصطفى رويحة، ونشرها مركز المسبار للدراسات والبحوث.

من أهم نتائج الدراسة أن بدء التنظيم القاعدي «هيئة الإسلام والمسلمين» بمالي هدفه الدخول إلى تخوم موريتانيا والسنغال. فحين «أطلقت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هجمات عنيفة غرب مالي، في يوليو (تموز) المنصرم، استهدفت كايس و(6) بلدان أخرى على الحدود مع موريتانيا والسنغال، وتُكثف الجماعة جهودها، في الشهور الأخيرة، نحو غرب مالي باعتباره بوابة جغرافية وخط مواجهة سياسيّاً واقتصاديّاً، مما يفسح المجال نحو الانتقال إلى موريتانيا والسنغال، والاقتراب من السواحل الأطلسية، كما يأتي ذلك في إطار استراتيجية أكبر تستهدف توسيع أركان تنظيم القاعدة في الساحل وغرب أفريقيا، وتتحرك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بخطوات تكتيكية تستهدف السيطرة على مفاصل الدولة في مالي إداريّاً واقتصاديّاً، مستغلة الظروف السياسية المضطربة».

الكارثة أن هذه البقعة المهمة موضع تنافس، كما تقول الباحثة، بين «داعش» و«القاعدة» صراعٌ «على النفوذ في الساحل وغرب أفريقيا، وتوسع تنظيم داعش في منطقة تيلابيري في النيجر، وهي المنطقة الحدودية الثلاثية التي تربط بين مالي وبوركينا فاسو وبنين، كما يتمركز بصورة أكبر في ولاية بورنو بالنيجر، ويمتد نشاطه نحو الحدود الشمالية الغربية لنيجيريا، وفي حوض بحيرة تشاد، ويمتلك قاعدة بشرية بقوة (8) آلاف إلى (12) ألف عضو. كما أجرى هجمات باستخدام المسيّرات المسلّحة ضد منشآت عسكرية في ولايتيْ بورنو ويوبي منذ عام 2024. وفي المقابل يوسّع تنظيم القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) نفوذه في دول الساحل خارقاً الحدود نحو غانا وتوغو وبنين».

تلك الفكرة آنفة الذكر أُعلّق عليهما بنقطتين أساسيتين:

الأولى: أن «تنظيم القاعدة» مختلف تكتيكياً وهيكلياً عن «داعش». «القاعدة» تنظيم يحاول أن يكون أكثر تراتبيةً ومؤسسيةً؛ بمعنى ألّا يكثر من التشغيب المؤدي إلى الانكشاف. كما أن مستوى الدراسات للواقع المحيط به في أيّ مكانٍ يختاره، غالباً ما يكون دقيقاً بنسبةٍ أكبر من تسرّع «تنظيم داعش» المفتقر إلى مثل هذا النمط من التحليل للوقائع والمنتبه لخطورة المنعطفات.

الثانية: أن «تنظيم القاعدة»، وخاصة في منطقتنا، يحاول تبيئة وإعادة انبعاثه على المستويات كافة. لو عدنا لتاريخ نشأة التنظيم وكيف بدأ إرهابه وأصوليته منذ منتصف التسعينات، لوجدنا أنه تدرّج تبعاً للأحداث، بلغت ذروة تصعيده في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ومن ثم انفرطت السبحة بعد التدخل الأميركي بالعراق، ومن ثم الدخول بأعمال إجرامية في كل مكان.

الآن يحاول «تنظيم القاعدة» الترويج للحالة الإرهابية بشكلٍ مختلف؛ وآية ذلك أن مجموعة من قياداتهم على المنصّات السوشيالية يظهرون بزيّ مغاير، ويستشهدون بالمفكرين، وربما بالفلاسفة، لتمرير مقولاتهم وأفكارهم الجهنمية على الأجيال التي لا تعرفهم ولم تقرأ لهم البتة.

الخلاصة أن تمركز «القاعدة» في مالي بغية دخول موريتانيا والسنغال هو تشويش على حضورها لدينا في الإقليم، ولكنه حضور غامض وكامن. الأهم من كل هذا التموضع المتذاكي أن نفهم عقليّة هذه التنظيمات الأصولية، وكيف تعيد رسم خرائطها، منتظرة لحظة الانقضاض أو التفجير، بل الانتقام.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد