الكاميرون تدخل أفق الانتخابات الرئاسية المقبلة، محمّلة بأثقال سياسية واقتصادية وأمنية، تجعل هذا الاستحقاق لحظة فارقة في تاريخها الحديث. فمنذ عام 1982 ظلّ الرئيس بول بيا ممسكاً بمفاصل السلطة، معتمداً على شبكة من الولاءات والتحالفات، وراكم طوال أربعة عقود نموذجاً يقوم على الاستقرار الشكلي مقابل غياب الإصلاحات العميقة.
لكن مع مرور الزمن بدأ هذا التوازن يتآكل أمام مجتمع يتغيّر بسرعة؛ إذ يُشكّل الشباب ما يزيد على 60 في المائة من السكان، وهؤلاء يطالبون بفرص عمل وحياة كريمة ونظام سياسي أكثر شفافية.
كثيراً ما تُوصف الكاميرون في الأدب السياسي بأنها «أفريقيا المصغرة»، وذلك بسبب تنوعها الجغرافي والثقافي واللغوي؛ إذ تجمع بين سمات وسط أفريقيا وغربها، ويتحدث سكانها الفرنسية والإنجليزية.
بل يمكنُ القول أيضاً إنها بلد تلتقي فيه كل تحديات القارة السمراء، من تأزم سياسي واقتصادي، إلى تحديات أمنية، وصراعات مسلحة وانقسامات عرقية ودينية، وفوق كل ذلك رئيس يتمسّك بالحكم منذ قرابة نصف قرن.
تأتي انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل لتصب الزيت على نار كل هذه المشكلات، وكي تكون لحظة فارقة في زمن يتحرك ببطء في بلدٍ يحمل معه تاريخاً من الانقسام والتشرذم. في أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الكاميرون مستعمرة ألمانية، ولكنها بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الألمان، جرى تقسيم المستعمرة إلى إقليمَيْن تحت وصاية عصبة الأمم؛ أحدهما تحت الإدارة الفرنسية، والآخر تحت الإدارة البريطانية.
في عام 1961، وبعد استقلال كلا الإقليمَيْن، أُجري استفتاء، وصوّتت المنطقة الجنوبية التي كانت تحت الإدارة البريطانية للانضمام إلى جمهورية الكاميرون الفرنسية المستقلة، لتتشكّل بذلك «جمهورية الكاميرون الفيدرالية» ثم «جمهورية الكاميرون المتحدة» لاحقاً.
ولكن الصراع اللغوي والثقافي سرعان ما أخذ أبعاداً سياسية عام 2016، حين ارتفعت مطالب بانفصال المناطق الناطقة بالإنجليزية، وتحول إلى صراع مسلح أدى إلى هشاشة الدولة.
في السياق ذاته، وفي أقصى الشمال تواصل جماعة «بوكو حرام» النيجيرية شن هجمات محدودة لكنها مؤثرة، فيما يواجه جيش الكاميرون تحديات كبيرة في مراقبة الحدود الطويلة مع نيجيريا وتشاد وتأمينها.
لا شك في أن الوضع الأمني يجعل من الانتخابات الرئاسية المقبلة اختباراً حقيقياً لمتانة الدولة وقدرتها على استيعاب التوترات من دون انزلاق نحو مواجهات أوسع، ولكن الوضع الاقتصادي هو الآخر له تأثيره الكبير على مجرى الانتخابات، فالبلد الغني بالموارد من نفط وغاز طبيعي وذهب ومعادن نادرة، يعيش أغلب سكانه تحت خط الفقر، وشبابه الذين يرزحون تحت البطالة وانعدام الأمل.
المشهد السياسي الداخلي لا يوحي بتحولات جذرية وشيكة. الرئيس بول بيا الذي يحكم البلاد منذ 1982 لا ينوي التنحي، ويواصل تدبير الأمور بذكاء ودهاء «أستاذ القانون الدستوري»، وذلك عبر شبكة صلبة من الولاء الشخصي والقبلي لضمان استمرارية حكمه. هذه الشبكات تُقدم دعماً سياسياً مقابل امتيازات اقتصادية ووظيفية.
أما المعارضة، ممثلة في شخصيات مثل موريس كامتو وجوشوا أوسي، تمتلك قاعدة معتبرة، خصوصاً في المدن الكبرى وجاليات الخارج، لكنها تصطدم بالقيود القانونية والانقسامات الداخلية التي تحد من فاعليتها.
وأمام ضعف المعارضة، وسيطرة النظام على مؤسسات الدولة وآليات العملية الانتخابية، تبدو فرص التغيير عبر صناديق الاقتراع ضعيفة جداً. ورغم ذلك فإن استمرار حالة الانسداد يعزّز الضغوط الاجتماعية ويفتح الباب أمام سيناريوهات غير متوقعة إذا ما استمرت دوامة التهميش والاحتقان.
الخارج يراقب المشهد بدقة، إذ يُعدّ الكاميرون ركيزة للاستقرار في أفريقيا الوسطى. الشركاء الدوليون الذين لطالما فضّلوا الاستقرار على التغيير يبدون اليوم أكثر قلقاً من انعكاسات استمرار الأزمات، سواء فيما يتعلق بتدفق اللاجئين أو بتهديد طرق التجارة والطاقة.
السياق الذي تأتي فيه هذه الانتخابات يثير المخاوف من تكرار انتخابات 1992 الدموية في الكاميرون، حين وصل الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى ذروته، وجاءت الانتخابات لتفجر الوضع، فاندلعت احتجاجات شعبية حاشدة رافضة فوز بول بيا بالانتخابات. ردت الحكومة بعنف وأعلنت حالة الطوارئ في بعض المناطق، واعتقلت الآلاف من أنصار المعارضة، وقمعت المظاهرات بالقوة المفرطة، مما أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا.
اليوم تغيّرت الأمور، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، وأصبحت الشرعية السياسية للنظام لا تُقاس فقط بقدرته على تنظيم انتخابات دورية، وبقبضته الأمنية، بل بمدى استعداده للإصغاء إلى مطالب شعبه وتقديم بوادر إصلاح واقعي.
بين احتمالية استمرار الوضع القائم عبر تجديد ولاية للرئيس أو أحد المقربين منه، وما يمكن أن يفتح ذلك من أبواب عدم الاستقرار، واحتمال بروز مفاجأة انتخابية تبدو شبه مستحيلة، يبرز خيار ثالث هو الأكثر حكمة وعقلانية، ومرجح لدى كثير من المراقبين، وهو إدخال تعديلات شكلية على المشهد لإضفاء شرعية إضافية من دون إحداث تغيير جوهري في موازين القوى.
غير أن الرهان الحقيقي يكمن فيما إذا كان النظام سيفتح المجال تدريجياً أمام إصلاحات سياسية واقتصادية تخفّف من حدة التوتر، أم سيكتفي بتأجيل الأسئلة الكبرى إلى موعد لاحق... موعد قد لا يأتي!