سليمان جودة
التقرير الذي أذاعته وكالة الصحافة الفرنسية عن الحال في المدارس الفنلندية لا بد أنه سيجعل دولاً كثيرة تغار من فنلندا. التقرير يروي واقع الحال في المدارس هناك بعد تطبيق قرار حظر استخدام الموبايل في أثناء الدراسة، ويقول إن التلاميذ أصبحوا يجلسون مع بعضهم البعض في فترات الاستراحة، ويتبادلون الأحاديث فيما بينهم، ويقيمون حياة اجتماعية لم تكن متاحة لهم في المدرسة من قبل.
القرار كان قد بدأ تطبيقه مع بدء الدراسة هذه السنة أول الشهر الماضي، ورغم أن تلاميذ كثيرين ضاقوا به في البداية، إلا أن التجربة تقول إنهم صاروا سعداء به، وبدأوا يتخلصون شيئاً فشيئاً مما كان يبدو أقرب إلى إدمان الموبايل في مرحلة ما قبل الحظر منه إلى أي شيء آخر. ولا بد أن قرار الحظر لم يكن مجرد خاطر مر سريعاً في ذهن الحكومة هناك، فقامت من فورها إلى اتخاذه دون مقدمات.
ذلك أن مقدمات قرار كهذا يمكن أن نجدها في شيئين اثنين تتميز بهما فنلندا، ليس فقط بين الدول الإسكندنافية التي تنتمي هي إليها في أقصى الشمال الأوروبي، وإنما تتميز بهما بين الغالبية الكبيرة من دول العالم.
الشيء الأول أن مؤشر السعادة الذي يذيع ترتيب الدول فيه كل سنة، لم تكن فنلندا تتخلف عن الصدارة فيه دائماً، بل وفي السنوات الأخيرة كانت تتصدر قائمة الدول الأسعد في العالم، وقد حدث هذا مرات وعلى التوالي، ولا بد أن ترتيباً كهذا دفع الجهات المعنية في الدولة الفنلندية إلى البحث في الأسباب التي تزيد من سعادة الفنلنديين، وكذلك الأسباب التي قد تقلل من سعادتهم وتضعهم في ذيل قائمة الدول الأكثر سعادة.
إن دولاً كثيرة حول العالم تشكو من سطوة الموبايل في حياة مواطنيها، ولكن فنلندا يبدو أنها هي وحدها بين هذه الدول التي فكرت في الحد من هذه السطوة، وفي وضع الموبايل في مكانه الطبيعي في حياة المواطنين، كأداة للتواصل الضروري لا لقتل الوقت، ولا لقضاء الساعات الطوال على شاشته دون مبرر ضروري.
ولم تفكر فنلندا في ذلك ثم لا شيء، ولكنها أخذت بتفكيرها إلى الحياة العملية، وقررت أن يكون الحضور الطلابي في المدارس منضبطاً، وأن يذهب الطالب إلى المدرسة للدرس والتحصيل العلمي، لا لقضاء وقت على الموبايل سواء أكان وقتاً قصيراً أم غير قصير.
والشيء الثاني أن فنلندا لا تزال الدولة الأفضل تعليماً في العالم، وقد كان من الطبيعي أن يربط كثيرون بين أن تكون الدولة الأسعد في العالم هي نفسها الأفضل تعليماً، لأنه لا شيء يسعد المواطن بقدر ما يسعده أن يكون متعلماً كما يقول الكتاب، فهذا من شأنه أن يجعل سعادته ببلاده وبالعالم من حولها سعادة في مكانها.
وقد قيل عن حق من جانب خبراء اقتصاد أن الطريقة الأفضل للتوزيع العادل للثروة في الدولة على مواطنيها، هي توفير تعليم جيد لهم، فهذه هي الخطوة الأساسية نحو أن يكون للمواطن نصيب عادل في ثروة بلاده.. فالإنسان المتعلم جيداً سيكون سعيداً على المستوى النفسي بالضرورة، أما سعادته على المستويات الأخرى فهي مضمونة بالدرجة نفسها، لأن تعليمه الجيد هو الذي سيفتح له الطريق لفرصة عمل لائقة، وهذا بالتالي سيتيح له مورد دخل يعيش به حياة آدمية كريمة.
هذا كله تجده أو تجد شيئاً منه في شهادات نقلتها وكالة الصحافة الفرنسية عن معلمين في المدارس الفنلندية التي شملها قرار حظر الموبايل دون استثناء.. فهذا معلم يقول إن طلابه صاروا أشد تركيزاً في دروسهم، وهذا معلم آخر يحكي أن تلاميذه لم يعودوا مشتتين كما كانوا في مرحلة ما قبل قرار الحظر، وهذه معلمة ثالثة تروي أنها أصبحت قادرة على أن ترى وجوه تلاميذها وملامحهم، ومن قبل كان التلميذ من هؤلاء يرد على المعلمة إذا سألته في أي شأن، بينما وجهه يتركز ويغيب في شاشة الموبايل الذي يحمله في يده!
أطرف ما في الموضوع أن التلاميذ أنفسهم أصبحوا سعداء بالقرار، ولم يعودوا يتبرمون منه كما كانوا في البداية، وأنهم أحسوا بأن انغماسهم في شاشة الموبايل من قبل لم يكن له ما يدعو إليه ولا ما يبرره، وأن تكنولوجيا العصر التي يظل الموبايل أحد تجلياتها لا يجب أن تجور على حياة الناس إلى هذا الحد.
ليت القرار الفنلندي يصير قراراً وطنياً في كل دولة، وعندها سيدرك كثيرون بيننا أن الموبايل أخذ في حياتهم مساحة ليست له ولا هو لها، وأن التواصل بين الناس هو التواصل المباشر الذي يسعد به الطرفان، لا التواصل الجامد الذي لا مشاعر فيه من خلال ما يسمى مواقع التواصل.