: آخر تحديث

طيف الوحدة وشبح التقسيم

3
2
2

طالما اعتبرتُ الذاكرة «شمس الروح». والتعريف ينطبق على ذاكرة الأفراد، كما الجماعات. لكن ضعف الذاكرة، الفردية والجماعية، أمر مأساوي شائع في حياة الشعوب، في عدم ربطها ماضيها بحاضرها، وعدم وعيها بذاتها ومصيرها. والوضع اللبناني الحاضر يندرج في متاهات الذاكرة. فقلة ضئيلة تدرك ربما كيف امتدّت تسمية «لبنان» إلى مجمل «لبنان الكبير» الحالي. و«لبنان» في القرون الوسطى والأزمنة الحديثة، حتى مطلع القرن التاسع عشر، هو تسمية جغرافية، تُطلَق تحديداً على الجبل الشمالي الممتد من جبل المكمل فوق إهدن إلى جبل المنيطرة فوق العاقورة، لا غير، بأوديته الثلاثة؛ قاديشا وتنورين وأدونيس. فهذا كان لبنان في كتابات مئات الرحّالة إلى الشرق. وحتى آخر القرن الثامن عشر، كان يصف الرحّالة الفرنسي المستنير، فولني، كيف انتقل من عكّار، إلى لبنان، إلى كسروان، فصنين... كما أن الإمارة المعنية، ثم الشهابية، المتوالية طوال ثلاثة قرون ونصف القرن، لم تحمل ولا مرّة اسم الإمارة اللبنانية، خلافاً لما هو مدرج في كتاب التاريخ الرسمي اللبناني، وكتب كثيرة أخرى. كانت هي «إمارة الجبل»، أو «إمارة الشوف»، أو «إمارة الدروز»، إلى حين اعتنق الأمراء الشهابيون المذهب الماروني مع الأمير يوسف الشهابي مطلع الربع الأخير من القرن الثامن عشر. وللمرة الأولى أطلِق اسم لبنان على كيان سياسي كان عام 1861 مع «متصرفية جبل لبنان»، وهي الكيان اللبناني الأول، المحكوم ذاتياً والمضمون دولياً داخل السلطنة العثمانية. وعام 1920 بعد انتصار «الحلفاء» في الحرب الكونية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية، ظهر «لبنان الكبير»، وشملت هذه التسمية كل أراضي لبنان الحالي.

هكذا، على غرار الكثير من الدول، تكوّن الكيان اللبناني واتسع مداه على مرّ الزمن انطلاقاً من خلية أساسية، أطلقتْ عليه اسمها، هي جبل لبنان الشمالي القديم. فأي ضير في ذلك؟ هذه هي الحقيقة التاريخية. لكن لأسباب شتى، لا يعرف هذه الحقيقة، أو يتجاهلها أو يرفضها، الكثيرون. فكيف الوصل، في غيابها، بين حاضر لبنان وماضيه ومستقبله؟

تُرى كيف تكون نظرة الفرنسيين مثلاً إلى وطنهم، إن هم تجاهلوا أو رفضوا الإقرار بأن فرنسا الحالية تكوّنت تاريخياً انطلاقاً من خلية أساسية، هي «جزيرة فرنسا» وسط البلاد، التي انضمّت إليها على مرّ الزمن الأراضي والمقاطعات الكثيرة التي تكوّنت منها مملكة ثم جمهورية فرنسا، والتي كانت آخرها مقاطعة السفوا عام 1860؟

من دون إدراك تكوّنهم التاريخي، كيف سيعي اللبنانيون هويتهم المشتركة والمتعدّدة في آنٍ؟ وكيف سيتعاملون مع طيف الوحدة وشبح التقسيم المرسومين الآن أمامهم؟

لا شك في أنه خلال هذه الـ164 عاماً من تاريخ الكيان اللبناني، نشأت وتطورت أواصر وحدوية كثيرة بين المكوّنات اللبنانية، معيشية، وتربوية، وإدارية، واقتصادية، ومالية، وسياسية، وإعلامية، وفي مجال المواصلات، والاختلاط، والتعارف، والتبادل... لعبت مركزية بيروت دوراً محورياً فيها. وقد جاء الفن، خصوصاً تراث الغناء اللبناني، ليعمّق هذه الوحدة. لكن مثلها مثل جميع الأنظمة التي توالت على المشرق العربي منذ سقوط السلطنة العثمانية قبل قرن من الزمن، لم تستطع الصيغة اللبنانية تحويل الجماعات المنضوية فيها إلى أفراد مواطنين. على العكس من ذلك، برزت أكثر فأكثر في كل أنحاء المشرق هوية الجماعات، الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية والمناطقية.

وشبح التقسيم، من أين يطلّ على الكيان اللبناني؟ خلافاً لاعتقاد خاطئ شائع، هو لا يطلّ من طروحات اللامركزية الموسّعة، أو من الطروحات الفيدرالية، التي هي بطبيعتها وحدوية، بل من مكان واحد: الشرخ العميق الذي قادت إليه 43 عاماً من جهود المحور الإيراني الحثيثة داخل الجماعة المتعاطفة معه؛ لبناء «دولة» تابعة له داخل «لبنان الكبير»، وذلك على جميع المستويات، العسكرية والأمنية والاقتصادية والآيديولوجية الدينية والتربوية والإعلامية، وعلى مستوى أنماط التفكير والعيش. ومع أن لبنان عرف منذ أكثر من قرن مشاريع إقليمية عديدة فوق أرضه، سبّبت له متاعب كثيرة، فتلك المشاريع، الوحدوية السورية، الفيصلية منها ثم الأسدية، والوحدوية العربية، البعثية منها والناصرية، والمشاريع الماركسية والاشتراكية، اقتصرت كلها في جوهرها على السياسي والفكري لا غير. أمّا المشروع الإقليمي الإيراني، فهو يشكّل، للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع المشاريع الإقليمية في لبنان، عملية تحويل عميقة للبيئة التي تحتضنه، تتناول كافة أوجه الحياة البشرية، بحيث باتت ضاحية بيروت الجنوبية على سبيل المثال، أقرب ثقافياً وشعورياً ووجودياً، إلى طهران منها إلى الأشرفية، التي تبعد دقائق معدودات عنها... تُرى إلى أين؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد