: آخر تحديث

«وَهْم الثّراء»: فلسفة الاستعراض وآثاره على وعي المجتمع

2
3
3

رقية ابراهيم الشيخ

حين يتحول الوجود الإنساني إلى مشهد استهلاكي، منذ فجر التاريخ، سعى الإنسان لإثبات وجوده عبر رموز ودلالات: جدران الكهوف، الحلي القديمة، القصور، غير أن هذه الرموز كانت تحمل -رغم مظاهرها- معنى أعمق يتصل بالخلود، بالهوية، وبالانتماء.

أما في زمن السوشال ميديا، فقد انقلبت المعادلة: لم يعد الرمز وسيلة للتعبير عن المعنى، بل صار الغاية ذاتها. الصورة لم تعد انعكاساً للواقع، بل باتت الواقع ذاته؛ وكلما زاد بريقها الاستعراضي، خُيِّل للمتلقي أنها تمثل الحقيقة المطلقة.

هكذا يولد «وهم الثراء»: حيث يتحوّل الإنسان من كائن يُقاس بعطائه وقيمته الفكرية والاجتماعية، إلى كائن استعراضي يُختزل وجوده في ماركة ساعة، أو رقم سيارة، أو صورة مع يخت وطائرة.

وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن يُعاد تشكيل وعي الأجيال على أساس الصورة لا الجوهر، وعلى أساس الإنفاق لا الإنتاج، وعلى أساس المظاهر لا المعايير!

الاستعراض المالي في زمن السوشال ميديا: بين وهم الثراء وتآكل القيم

لم يعد الاستعراض المالي مجرد سلوك فردي يُمارَس في حدود ضيقة، بل أصبح ظاهرة متسارعة تُبث للعالم بأسره بضغطة زر، عبر منصات التواصل الاجتماعي. من السيارات الفارهة، إلى اليخوت والطائرات الخاصة، إلى المقاطع التي تنتشر كالنار في الهشيم... يعيش جيل كامل على إيقاع صور مشوهة للثراء، تغيب عنها قيم العمل والاجتهاد والجدارة.

أولاً: فلسفة الاستعراض

الاستعراض المفرط ليس مجرد ترف، بل هو انعكاس لفلسفة قائمة على «أمتلك... إذاً أنا موجود».

تحوّل المال من وسيلة للعيش الكريم إلى رمز للوجود الاجتماعي، ومن أداة تنمية إلى سلاح تنافسي استعراضي. هنا نفقد التوازن: فالقيمة الإنسانية لا تعود بما يقدمه الفرد لمجتمعه، بل بما يملكه من كماليات قابلة للتباهي.

ثانياً: أثر الظاهرة على البنية الاجتماعية

1 - تفكك منظومة القيم:

حين يعلو صوت «البراند» على صوت العلم والعمل، يصبح النجاح مرادفاً للاستهلاك بدل الإنتاج.

2 - إحباط الجيل الشاب:

آلاف الشباب الذين يسعون بعرقهم لتسلق السلم الوظيفي والدراسي، يجدون أنفسهم أمام صور خادعة تختزل الحياة في لقطة فارهة، والنتيجة هي: شعور بالعجز، أو اندفاع غير عقلاني نحو ديون واستهلاك مظهري.

3 - غياب العدالة الرمزية:

في مجتمعات تعاني تفاوتاً اقتصادياً، يصبح الاستعراض المفرط نوعاً من العنف الرمزي، حيث يتم استفزاز الفقراء والمتوسطين بإبراز فجوات لا تُسد بالاجتهاد وحده.

ثالثاً: مقارنة بين الثراء الحقيقي والوهمي

الثراء الحقيقي هو استثمار في الفكر، في الشركات، في فرص العمل، في مشاريع طويلة الأمد تخلق قيمة اقتصادية. سيدات أعمال يتصدرن قوائم فوربس سنوياً لم نسمع منهن صخباً أو «هيطاً»؛ لأن الثروة الحقيقية لا تحتاج صخباً لتثبت وجودها.

أما الثراء الوهمي، فهو عرض مسرحي يعتمد على الإبهار اللحظي من دون أساس متين.

رابعاً: البعد النفسي والثقافي

- من منظور علم النفس الاجتماعي: الاستعراض المفرط غالباً هو محاولة لتعويض نقص داخلي، أو إقناع الذات قبل الآخرين بالقيمة.

- ومن منظور الثقافة: المجتمع الذي يصفق لهذه العروض يعزز حلقة مفرغة، حيث يُقاس الإنسان بما يلبس ويقتني لا بما يقدّم ويُنتج.

خامساً: نحو وعي مختلف

المجتمع بحاجة إلى إعادة تعريف النجاح والثراء:

- النجاح = أثر + قيمة + إنتاج.

- الثروة = استدامة + فكر + إنجاز.

- القيادة = مسؤولية اجتماعية لا مظاهر استهلاكية.

إننا نعيش اليوم في صراع بين قيم الوعي وقيم الاستعراض. وإذا لم نُحسن ضبط معاييرنا الاجتماعية، فقد نخسر أجيالًا كاملة تتوهم أن الحياة تُختصر في صورة مع سيارة فارهه أو فيديو على «اليخت» أو طائرة خاصة.

الثروة الحقيقية لا تُستعرض، بل تُترجم إلى مشاريع تبني الإنسان والوطن.

إن توثيق اللحظات الجميلة ومشاركة النجاحات أمر مشروع في زمن التواصل المفتوح، فالصورة قد تكون جسراً لبث الأمل والإلهام.

لكن ما نشهده اليوم تجاوز حدود المعقول، وتحول إلى ساحة صراع استعراضي يلهث فيه بعض «المشاهير» خلف وهم الثراء، حتى أصبحوا يقدّمون للناس صورة عن ثروة خيالية لا تمت للواقع بصلة، أنا لستُ ضد أن يعبّر الإنسان عن فرحه، ويشارك محبيه جزءاً من حياته، أو أن يشارك إنجازاته، لكن الخطورة تكمن في تحول هذه المشاركات إلى معيار اجتماعي زائف يربك وعي الناس! ويشجع على التنافس المظهري بدلاً من التنافس العملي. فالمجتمع الذي يقيس قيمة أفراده بما ينشرونه على «الستوري» أو «التيك توك» أو «انستغرام»، لا يملك مستقبلاً راسخاً.

إن ما نحتاجه اليوم هو وعي يوازن بين الفرح الطبيعي والإنجاز الحقيقي؛ بين التوثيق العابر والاستعراض الفارغ، ووعي يدرك أن الثروة الحقيقية ليست في صورة فقط بل في بصمة تترك أثراً في حياة الآخرين.

إن الأجيال القادمة مطالبة بأن تتسلح بالوعي والمعرفة، وأن تستثمر في عقولها وأن تقطف ثمار كدّها واجتهادها بما يتماشى مع مبادئها وقيمها. فالثروة الحقيقية في بناء الإنسان لنفسه بالعلم، وصناعة أثره في مجتمعه، وترك بصمة تستمر بعد أن يخبو وهج الاستعراض وينطفئ بريق الوهم.

إن جوهر القضية لا يكمن في رفض الفرح أو مصادرة حرية التعبير عن الذات، بل في إعادة ترتيب الأولويات: أن نجعل العلم فوق المظاهر، والفكر فوق الاستعراض، والجوهر فوق الصورة؛ فالمجتمع الذي يربّي أبناءه على أن قيمة الإنسان تُقاس بشهادته، بمعرفته، وبأثره، لا بما يملكه من مقتنيات استعراضية، هو مجتمع يضمن لنفسه الاستمرار.

على الأجيال أن تدرك أن الثروة الحقيقية لا تُقاس بعدد السيارات واليخوت، بل بعدد العقول التي تبني، والقلوب التي تُلهم، والأيادي التي تعمل. إن الاستثمار الأجمل هو الاستثمار في الذات، في العلم، وفي الثقافة؛ هو ما يورّث كرامة، ويترك أثراً خالداً، ويجعل من الإنسان قيمةً راسخة لا مشهداً استهلاكياً عابراً!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد