من يتأمل مسار العلاقات السعودية - الأميركية سيدرك أنها لم تكن يومًا بسيطة أو واضحة تسير في خط واحد بلا تعرجات، بل كانت مليئة بالصعود والهبوط، وبالتوافق والخلاف، وبالمواقف المتقاربة حينًا والمتباعدة حينًا آخر.. وهي شأن العلاقات الدولية تُختبر باستمرار؛ لكنها تبقى قائمة، لا تنقطع، لأنها ببساطة بين شريكين يدركان بعمق أن علاقتهما أكبر من أي خلافات عابرة أو تباينات في المواقف.
الحدث الأخير الذي يجسّد هذه الفكرة بوضوح هو توقيع وزارة الدفاع اتفاقية شراكة عسكرية مع الحرس الوطني الأميركي لولايتي إنديانا وأوكلاهوما، ضمن برنامج الشراكة بين الدول (SPP)، وهو ليس مجرد إطار تدريبي أو بروتوكولي، بل يمثل نموذجًا أميركيًا طويل الأمد لربط القوات المسلحة في الدول الصديقة بالحرس الوطني الأميركي، عبر تبادل الخبرات والتدريب والقيادة والتخطيط، وحتى الاستجابة للكوارث وإدارة الأزمات.
هذه الاتفاقية صيغة جديدة للثقة المتبادلة، وأداة لبناء شراكات مؤسسية راسخة؛ تضع العلاقة في إطار عملي ومستدام، ولا يمكن قراءتها في إطارها العسكري فقط، بل تُفهم بوصفها رسالة سياسية مزدوجة؛ فهي من جهة تؤكد أن الرياض ماضية في بناء قوة عسكرية حديثة قادرة على مواجهة التحديات، ومن جهة أخرى تُعيد واشنطن تأكيد التزامها بأمن المنطقة، ليس من خلال الوجود العسكري التقليدي، بل عبر شراكات مؤسسية طويلة المدى.
بالنسبة للمملكة، فإن توقيع هذه الاتفاقية يعكس توجهًا واضحًا يتسق مع رؤية 2030 في تعزيز الجاهزية ورفع الكفاءة العملياتية للقوات المسلحة، وهو مسار استراتيجي طويل الأمد يسهم في تطوير القدرات الدفاعية وتنمية القيادات العسكرية، وتوسيع دائرة التعاون مع الحليف الأميركي في مجالات تشمل القيادة والتخطيط والذكاء الاصطناعي، إلى جانب برامج مجتمعية وثقافية تُخرج العلاقة من الطابع العسكري البحت إلى فضاء أوسع من التفاهم المتبادل.. أما بالنسبة لواشنطن، فإن اختيار السعودية شريكًا جديدًا في هذا البرنامج يؤكد إدراكها أن المملكة ليست مجرد مستورد للسلاح، بل قوة إقليمية تحظى بالثقة ولا يمكن تجاوزها.. ولتقول بوضوح إن الخلافات حول ملفات مثل القضية الفلسطينية أو أسواق النفط لا تمس الالتزام باستراتيجية تنمية العلاقات الثنائية، حيث إن المصالح المشتركة قائمة على وعي متبادل بأن خسارتها ستترك فراغًا خطيرًا؛ مهما اختلفت السياسات في ملفات النفط أو تباينت المواقف من الاحتلال الإسرائيلي، لأن البديل لا يريد أحد أن يراه واقعًا.
الرياض تدرك أن المظلة الأميركية ما زالت ذات وزن في موازين القوى الدولية، وواشنطن تدرك أن المملكة تمتلك أوراقًا لا تعوَّض: موقع جغرافي، عمق ديني وحضاري، وثقل في أسواق الطاقة. لذلك، يتفق الطرفان أنها ليست علاقة مثالية، ولا يُراد لها أن تكون كذلك، لكنها علاقة تُدار بميزان حساس.. نحو توازن يحفظ مصالح الطرفين، لتبقى العلاقة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن الضمانة الحقيقية للاستقرار الإقليمي.