: آخر تحديث

العمر ليس مجرد رقم

2
2
2

علي عبيد الهاملي

تمضي بنا الحياة مثل قطارٍ يتوقف عند محطةٍ، ليعاود الانطلاق إلى محطةٍ أخرى. نصعده صغاراً، نحمل الضحكات البريئة والأحلام البسيطة، نركض خلف آمال لا نعرف مداها، نعتقد أن من يشاركنا رحلة القطار سيبقى معنا حتى النهاية. غير أننا ما إن نكبر، حتى ندرك أن القطار يمضي في طرق متشعبة، وأن لكل واحد منا وجهة، قد تبتعد كثيراً عن وجهات الآخرين.

هكذا نفترق عن أصدقاء الطفولة، الذين كانوا ذات يوم محور حياتنا، بل كان وجودهم شرطاً لا يكتمل الفرح إلا به. نكبر، وينشغل كل واحد منا بما فتح الله له من أبواب الرزق والعمل والعائلة، فيبهت وهج تلك الصداقات شيئاً فشيئاً.

في تلك اللحظة، نقف أمام مرآةٍ من نوعٍ آخر، مرآة لا يدخل في صنعها الزجاج ولا الفضة والزئبق والمواد الأخرى، مرآة تعيد رسم ملامح الوجوه التي عرفناها يوماً نضرة يانعة.

نعتقد أننا وحدنا من يطرح هذه الأسئلة. لا ندرك أن الآخرين يطرحون أيضاً الأسئلة نفسها. ثمة حوارات داخلية تجري بشكل متزامن. ربما ندرك أن هناك مسافةً تفصل بين ما كنا عليه وما صرنا إليه، مسافة صنعتها محطات العمر المختلفة.

أجمل ما في هذه اللقاءات، أنها توقظ فينا ذاكرة نائمة. نسمع من صديق قديم كلمة تفتح أبواباً مغلقة في أعماقنا. نضحك جميعاً على موقف كنا قد دفناه تحت ركام السنوات، فإذا به يعود حيّاً يملأ المكان دفئاً.

غير أن هذه العودة تحمل، ضمن ما تحمله، وجهاً آخر، وجهاً يذكّرنا بأن العمر رحلة لها بداية ونهاية. حين نرى صديق طفولة قد أثقله المرض، أو نسمع عن رحيل واحدٍ ممن كانت صورته تشكل معنا ذات يومٍ لوحة ذات أبعادٍ وزوايا، ندرك بعمق أن الحياة تمضي بلا هوادة، وأننا نقف أمام لحظة لم تكن ضمن حسابات أولئك الصغار الذين كُنّاهم.

ما أجمل أن يلتقي الإنسان بأصدقاء طفولته، بعد طول غياب! لكن الأجمل هو أن يحافظ على هذه الجسور، فلا يدعها تنهار تحت ضغط المشاغل اليومية. فالأصدقاء القدامى ليسوا مجرد أشخاص عابرين في حياتنا، إنهم جزء من تكويننا النفسي والعاطفي، هم الشهود على البدايات، وهم الذين حملوا أسرارنا الصغيرة، وأحلامنا البريئة، هم الذين رسمنا معهم الملامح الأولى لحياتنا.

الحكمة التي نتعلمها من مثل هذه اللقاءات، هي أن نمنح العلاقات الإنسانية بعضاً من وقتنا، مهما ازدحمت الحياة بالمشاغل. فمشوار العمر أقصر مما نتصور، وقطار الأيام أسرع مما نحتمل. وإذا كان لا بد أن يمضي كل منا في طريقه.

قد يغيّر الزمن أشكالنا وأصواتنا وأجسادنا، لكنه لا يستطيع أن يمحو اللحظات التي صنعناها مع أصدقاء طفولتنا. تلك اللحظات تظل محفورة في ذاكرة القلب، تستيقظ كلما التقينا، لتقول لنا إن الصداقة الحقيقية لا يصدأ معدنها، وأن العمر مهما طال، لا يستطيع أن ينتزع منا فرحة أن نجد في وجوه الأصدقاء بقايا ملامح طفولةٍ جمعتنا ذات يوم في بواكير العمر، وأن العمر ليس مجرد رقم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد