هيلة المشوح
كتبت مراراً عن معايير تحضر الأمم، التي من أهم مقوماتها تآزر مجتمعاتها، وتكافل شعوبها، ونشر ثقافة (التطوع) والبذل والعطاء كمبدأ إنساني مجتمعي أساسي.
في خطوة رمزية لافتة تُكرّس قيمة العطاء في الوجدان العام، تبرّع الأمير محمد بن سلمان بالدم يوم الخميس الماضي 21/8/2025، وأطلق سموه الحملة الوطنية للتبرع بالدم، في رسالة عملية مفادها أن التطوّع ليس ترفاً، بل بنية تحتية أخلاقية وصحية لأي مجتمع يسعى إلى الرُّقي، ومبادرة تستهدف رفع الوعي بالتبرع الطوعي وتحقيق الاكتفاء الوطني من الدم ومكوّناته لضمان إمدادات آمنة ومستدامة تُلبي احتياجات المرضى في أنحاء المملكة، فالتجارب العالمية تؤكد أن منظومات التطوع الفاعلة تُقلل فجوات الوصول إلى الرعاية الصحية، وتزيد قدرة المستشفيات على الاستجابة لحالات الطوارئ والعمليات الكبرى كمعيار الأمان والاستدامة والاكتفاء.
داخلياً، تشير المعطيات إلى زخم مجتمعي متنامٍ: فقد تجاوز عدد المتبرعين بالدم في المملكة 800 ألف متبرع خلال عام 2024، وهو رقم يؤشر إلى قاعدة مشاركة واسعة يمكن أن تتحول -بفعل التحفيز المؤسسي- إلى ثقافة راسخة ودائمة. ومع إطلاق الحملة الجديدة، تُعلن وزارة الصحة جاهزية 185 مركزاً معتمداً للتبرع بالدم؛ ما يعني أن الرغبة الفردية بالعطاء باتت تلتقي مع بنية استقبال وخدمات آمنة عالية الجودة.
على مستوى الرسالة العامة، ينسجم هذا التوجّه مع رؤى بناء مجتمع حيّ يتشارك المسؤولية ويجعل «الواجب الإنساني» ممارسة يومية، فاستدعاء القيم المدنية كالإيثار والانضباط والإحسان في مبادرات صحية جماهيرية، يرفع منسوب الثقة الاجتماعية ويعجّل بتحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو هدف صرّحت به الحملة بوضوح: رفع نسبة التبرع الطوعي إلى 100% من إجمالي المتبرعين بوصفه معياراً للتحضّر المؤسسي. وفي السياق ذاته، وحين نتصفح أي ملف لأي برنامج من برامج الرؤية 2030 كبرنامج (جودة الحياة)، سوف نجد أن هناك مساحة واسعة لبث ثقافة التطوع المؤسسي والفردي بين أبناء المجتمع.
تحمل بادرة ولي العهد دلالة قيادية؛ القدوة تُحرّك السلوك العام، والقيادة قدوة حين يتقدّم رأس الهرم بالعمل التطوعي والإيثار من وريده إلى وريد المواطن، فيختصر المسافة بين «الرسالة» و«الاستجابة»، ويتحوّل الخطاب إلى مشاركة ملموسة من أفراد ومؤسسات وهيئات، وهو ما انعكس سريعاً في تفاعل جهات حكومية ومجتمعية واتساع رقعة الحملات الميدانية.
أخيراً.. في المجتمعات المتحضّرة، يُقاس التطوّر بقدرة الدولة والمجتمع على تحويل القيم إلى نظم مستدامة. والتبرّع بالدم -بهويته التطوعية- يمثل نقطة التقاء نادرة بين الأخلاقي والعملي؛ فهو فعل إنساني يُنقذ حياة، وسياسة عامة تُحصّن النظام الصحي، ومؤشر مدني على نضج المجتمع وثقته بذاته. ومن هنا، تبدو الحملة الوطنية أكثر من حدثٍ ظرفي؛ إنها تأسيس لثقافة عطاءٍ ممتدة، تتغذى من القدوة وتستند إلى مؤسسات جاهزة، وتفتح أمام كل مواطن فرصة بسيطة لكنها فارقة: أن يمنح حياةً لغيره بقطرات دم.