جائزة نوبل للسلام هي واحدة من أشهر الجوائز العالمية وأكثرها جدلاً وتأثيراً، وتحمل في طياتها إرثاً أخلاقياً وفلسفياً وسياسياً فريداً. البداية كانت مع المخترع السويدي ألفرِد نوبل الذي لُقّب بتاجر الموت لأنه مخترع الديناميت، حيث جمع ثروة هائلة من اختراعاته. تقول الرواية إنه صُدم عندما علم أنه لُقب ب«تاجر الموت». حينها رأى أن التاريخ سيذكره كرجل أسهم في القتل لا التقدم. فقرر أن يخصص ثروته لإنشاء جوائز نوبل التي «تفيد البشرية» وخصص جزءاً كبيراً منها لجائزة نوبل للسلام، لتمنح لمن عمل أكثر أو أفضل من أجل تعزيز الإخاء بين الأمم أو تقليل الجيوش الدائمة، أو عقد مؤتمرات السلام. أول جائزة منحت عام 1901 مناصفة بين هنري دونان (مؤسس الصليب الأحمر) وفريدريك باس (رجل قانون فرنسي ومناضل من أجل السلام). من أهم من فاز بالجائزة مارتن لوثر كينغ (1946) ونيلسون منديلا وفردريك دي كليرك (1993) وياسر عرفات وشمعون بيريز واسحاق رابين (1994) وباراك أوباما (2009).
اليوم عادت الجائزة إلى صدارة النقاش العالمي، عندما جلس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على طاولة عشاء غنية بالأطباق الشهية التي لا تُذكِر أحداً بالمجاعة في غزة، والمُتخمة بالكثير من المُجاملات التي تُذكِر رجال الأعمال بمَوائد المَصالح المشتركة، ومنها رفع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ورقة ترشيح ترامب للجائزة.
هذا المشهد أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الإعلامية، فمن المعروف أن نتنياهو مطلوب للعدالة في بلاده بسبب قضايا فساد داخلية، ومطلوب خارجياً بسبب الحرب التي يشنّها على غزة والضفة، وترامب هو الداعم له بالسلاح والمعدات والتصاريح التي تدعو إلى توسيع مساحة إسرائيل التي عبّر بوضوح أنها صغيرة ويجب أن تتوسع. وكان ترامب قد ذكر بأن «إسرائيل لم تأخذ إلا القليل مما تستحق، هناك أراضٍ يجب أن تكون تحت سيادتها التاريخية». وفي خطاب آخر لحشد الإنجيليين قال:«هل هناك طريقة للحصول على المزيد من الأراضي لإسرائيل لأنها صغيرة جداً؟» هذه الخطابات تتماهى مع توجهات اليمين المتطرف في إسرائيل التي تنادي ب «إسرائيل الكبرى». فهل يستحق من يدعم الحرب بالسلاح ويدعو إلى الاحتلال جائزة سلام؟
والجدير بالذكر أن الأمم المتحدة رفضت هذه التصريحات ووصفها الاتحاد الأوروبي بأنها «خطاب خطير يعيد عقارب الساعة للوراء». لكن الرجل المُغرم بالتصفيق لا يتوانى عن إنكار ما يقوله في الصباح إن لم يتماش مع تغريدته المَسائية. وهكذا بدا يُبشر بالسلام ثم ينقضه، يقول بترحيل الفلسطينيين ثم يتحدث عن حل الدولتين. يصف صديقه نتنياهو ب «بيبي العظيم» ثم يُغضبه باتفاق مع الحوثيين. ويردد أنه يستحق جائزة السلام. يسترضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوماً ثم يعود ويرسل أسلحة إلى أوكرانيا. يقف على حافة الحلم الذي يؤرقه كيف يكون أقل من مارتن لوثر كينغ ومانديلا وهو الأبيض الذي يرفض التنازل عن العجرفة؟ والغصة التي لا تفارقه.. لماذا فاز أوباما بها وهو لم يفز؟
يُذكر أن الرئيس الحالم بصنع السلام بدأ عهده بتصريحات وصفت بأنها مستفزة حيث دعا كندا لتكون الولاية ال 51 لأمريكا، وأثار موجة غضب عالمية بشن حرب اقتصادية عندما رفع التعريفات الجمركية على الصين وأوروبا، وردت الصين عليه بالمثل ما أثار توتراً اقتصادياً عالمياً. وانسحب من اتفاقيات اقتصادية. وعاد إلى فرض العقوبات كأداة ضغط سياسي، واستهدف المكسيك بفرض رسوم على جميع وارداتها. أما المهاجرون فهم حكاية أخرى حاربهم في ولايته الأولى واستمر أكثر عنفاً في الثانية، حيث يعاني ملايين المهاجرين وبينهم من عاش سنوات طويلة في أمريكا من الخوف والاحتجاز والترحيل والخطاب العنصري. ولا ننسى وقف المساعدات التي تعتمد عليها الجامعات وقمع الطلاب الذين تظاهروا دعماً لوقف الحرب، وقطع المنح عن بعضهم. ووقف تمويل الأبحاث خصوصاًِ للمناخ والعلوم.
ورغم كل ما سبق، الرئيس المغرم بالجائزة لا يتوقف عن الإعلان أنه يستحقها. وحتى الآن هو مجرد مُرشح كلامي، أي غير رسمي ستعلن أسماء المرشحين رسمياً في أكتوبر(تشرين الأول) المقبل.. ولا يبدو أنه يقدّر أهمية الإعلام الذي تعامل معه بتكميم الأفواه وهي سياسة أكثر ما تكون بعيدة عن الديمقراطية التي تَوجت نفسها أمريكا مِثالاً لها. فمنذ توليه الحكم بدأ هجوماً على وسائل الإعلام الكبرى ووصفها ب «عدو الشعب» علماً أننا نتحدث عن وسائل لها ثقلها التاريخي مثل «سي إن إن» و«نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست» وغيرها، وطالما كرر «الإعلام الكاذب هو التهديد الأول لأمتنا أكثر من الصين والحدود المفتوحة» وتمادى حيث هدد برفع دعاوى قضائية ضد بعض وسائل الإعلام التي تنشر ما لا يروق له. هذا بالإضافة إلى خطته لإغلاق إذاعة «صوت أمريكا». وأول رد فعل على هذه المحاولات كان تعليق الصحافة التي اعتبرت أنها محاولة منه للترهيب. هذا غير منع صحفيين بعينهم من حضور المؤتمرات، واللائحة تطول على تضييق الإعلام وخنق المنابر الإعلامية الحرة.
الأهم نُذكِّر هنا أن الصحافة التي يستخف بها ترامب هي من أوقفت تسلم هنري كسنجر للجائزة (1973) رغم فوزه بها.
وبعد.. من يستحق الجائزة.. من يحلم؟ أومن يصنع السلام؟ وهل هناك من يصنعه؟
ترامب وحلم صانع السلام العالمي
مواضيع ذات صلة