حسام ميرو
الحرب الإسرائيلية الإيرانية، التي لم تتجاوز الأسبوعين، غاب عنها عنصر المفاجأة، فبعد استنفاد الصراع بالوكالة بين الطرفين كانت الحرب الخيار الوحيد، ليس من أجل تحقيق نصر استراتيجي حاسم، لأنه ببساطة غير ممكن، بل من أجل وضع الحرب نفسها كخيار محتمل قائم في أي لحظة، لكن هذه الحرب وما سبقها من أزمات عميقة في المنطقة، تطرح أسئلة عديدة حادّة على مجمل النظام السياسي العربي، وفي مقدمتها سؤال الشرعية، المتعلق بقدرة هذا النظام على تحقيق الاستقرار، ومدى امتلاكه الأدوات اللازمة لإنتاجه. مفهوم الشرعية السياسية هو مفهوم تبادلي بين الحاكم والمحكوم، وهو مرتبط، ضمن هذه التبادلية بأمرين، يتمثّل الأول في قدرة السلطة على ممارسة الحكم، والثاني متعلق بقبول المحكوم بتلك السلطة، أي أن السمة الأساسية لمفهوم الشرعية هي السمة التعاقدية، الخاضعة للتغيّر من شرط موضوعي إلى شرط آخر، وفي السياق العربي ما بعد مرحلة الانتدابات تعدّدت مصادر شرعية الأنظمة العربية، ابتداءً من مناهضة الاستعمار، كما في بعض الحركات التحررية التي وصلت إلى الحكم، إلى شرعية الانقلابات العسكرية في غير بلد عربي، وصولاً إلى شرعية الانتخابات الشكلية، أو ديمقراطية المحاصصة الطائفية. حروب العامين الأخيرين (2023-2025)، ولئن كان لا يمكن عدّها سبباً مباشراً لأزمة الشرعية في الأنظمة السياسية العربية، لكنها كانت كاشفة لعمق هذه الأزمة، فمثلاً، لا يمكن فصل مجريات الحرب الإسرائيلية على لبنان عن أزمة الشرعية في النظام السياسي اللبناني، حيث يعيش ويعتاش هذا النظام منذ «اتفاق الطائف» في عام 1989 على شرعية الظروف الدولية والإقليمية التي أنتجته آنذاك، دون أي سعي جدي للنخب السياسية لبناء شرعية حديثة تقوم على المواطنة بدلاً من الطائفية. المثال اللبناني ليس فريداً في المنطقة، خصوصاً بعد تهدّم «الدولة الوطنية» في غير بلد عربي، فالعراق منذ عام 2003، يعاني مشكلة مزمنة في نظامه السياسي، إذ تتمسك النخب السياسية التي وصلت إلى الحكم بالصيغة التوافقية التي أنتجتها واشنطن وطهران، على الرغم من كل المشكلات التي أحدثتها هذه الصيغة، والتي لا تزال تقف عقبة في وجه بناء شرعية وطنية جامعة، ما أبقى العراق ساحة مكشوفة أمام الصراعات الخارجية الطاحنة، يدفع ثمنها العراق دولة وشعباً، شرعية سياسية مفوّتة لبلد من أهم بلدان العالم العربي جيوسياسياً ونفطياً وحضارياً. في قلب هذه المعادلة، التي يتشكّل طرفها الأول من تسعير الصراع بين لاعبين إقليميين ودوليين كبار في منطقتنا، وبين الطرف الثاني للمعادلة، الذي تشكّله أزمة الشرعية لعدد من الأنظمة السياسية العربية، هناك العديد من المشكلات التي يجري تهميش تناولها أو حتى تفحّص تأثيرها، ففي عموم العالم العربي تراجعت الطبقة الوسطى كمّاً ونوعاً، وهي الطبقة الأشد تأثيراً في استقرار أي نظام سياسي، حيث جرت عملية تآكل منتظمة لها، أو إلحاق بعض نخبها بمنظومات الفساد القائمة، على حساب الأدوار الكبرى الاجتماعية والسياسية والتاريخية لهذه الطبقة، وليس بعيداً عن تآكل وتهميش الطبقة الوسطى زيادة الهوّة بين الدولة والمجتمع، أو إفراغ الدولة من مضمونها المؤسساتي لمصلحة هيمنة مفهوم السلطة. هل الأزمة الراهنة هي أزمة نظام سياسي عربي محدّد، أم أزمة نمط مفوّت للشرعية، لم يعد صالحاً لإنتاج شرعية الدولة الحديثة؟ هذا السؤال المفصلي يبرز اليوم كضرورة أمام عودة منطقة الشرق الأوسط إلى بؤرة الصراع العالمي، إذ لا يمكن لدول المنطقة أن تواجه التحديات الكبرى التي يفرضها هذا الصراع الدولي/ العولمي دون تحديث لشرعية النظام السياسي نفسه، لكن هذا التحديث المطلوب تاريخياً كشرط من شروط البقاء الكياني والسياسي لعدد من دول المنطقة التي أصبحت ساحات مكشوفة لهذا الصراع تعاند حدوثه النخب المحتكرة للفضاء العام، بكلّ ما يتصل بهذا الفضاء من أدوات تنفيذية ممانعة لعملية التحديث. تراجع شرعية النظام السياسي، مطلق النظام السياسي، تبدأ من تآكل قبول هذا النظام لدى الفئات الاجتماعية التي يزعم تمثيلها، أي من تقليص عملية التمثيل نفسها، واحتكار هذا التمثيل بدواعٍ مختلفة، دينية، وأمنية، وعشائرية، وأحياناً اقتصادية، غير أنه في المحصلة، كل هذه المسميات هي تمثيلات منقوصة، يجري دعم بقائها لمصلحة نخبة محدودة من المجتمع، تستمد شرعيتها الفعلية من لعب أدوار وظيفية خارجية، مشتقة من الصراعات الدائرة في الإقليم، وليس من شرعية داخلية وطنية. بعد أن وصلت حروب الوكالة إلى مرحلة الاستنفاد، ولم يعد بإمكان الدول الكبرى إقليمياً إدامة مفعولها، فإن الأنظمة السياسية ستكون آجلاً أم عاجلاً أمام متطلبات جديدة ذات صلة بمدى إمكانية استمرار هذا النمط من الشرعيات القديمة، ولا تبدو مروحة الخيارات المتاحة واسعة، فإما التوجه نحو إصلاح النظام السياسي، وبناء شرعيات تمثيل على أسس حديثة، وإما الانكشاف أكثر فأكثر، والانزلاق نحو صراعات داخلية، تفاقمت كل أسبابها خلال السنوات الماضية، وازدادت حواملها الاجتماعية، من الفئات التي جرى تهميشها طويلاً، وجرى إقصاؤها من ساحة التمثيل السياسي، وما يترتّب على هذا التمثيل من حقوق.